قال أبو بكر: قد كنتُ أكره أن أضمّن هذا الكتاب شيئاً من القذف، أوْ أشوبه بضرب من السفه والسخف، أو أذكر فيه هجاءً لقبيلة يجب على كافة المسلمين صونها، أوْ لرجل يكون سبيله في وجوب صيانته سبيلها، ولولا ذلك لكان في نقائض جرير والفرزدق وحدهما أوْ في قصيدتي الكميت ودعبل وحدهما، أوْ في أشعار الحكمي وضربائه دون من تقدمهم ما يملأ هذا الباب، بل ما يفي بجميع هذا الكتاب من أنواع التهاجي والتفاخر، ولولا أن معاني هذه الثلاثة الأبيات من المعاني المفردات الَّتي لا يكاد يقع مثلها سلاسة لفظ، واستيفاء معنى. وأنَّها مع ذلك ليس فيها ذكرٌ لأحد باسمه ولا نسب له بقبيلته، فيشترك فيها هو وغيره ما ذكرتها. ونحن الآن إن شاء الله إذْ أتينا في أبواب الهجاء من الأشعار بما فيه بلاغ. مبتدئون بأبواب الفخار.
الباب الثاني والسبعون
ذكر
من فخر بحسبه وامتدح بنسبه
قال امرؤ القيس:
إنّا وإن أحسابنا كَرُمت ... لسنا علَى الأحساب نتَّكلُ
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعلُ مثل ما فعلوا
وقال آخر:
عادوا مروءتنا فضُلِّل سعيهم ... ولكُلِّ بيت مروءةٍ أعداءُ
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشرٍ ... أزرى بفعل أبيهمُ الأبناءُ
وقال رجل من بني نهشل:
إنّا بنو نهشل لا ندَّعي لأبٍ ... عنه ولا هو بالأبناء يَشرينا
إن تُبْتَدرْ غايةٌ يوماً لمكرُمةٍ ... تلقَ السوابقَ منَّا والمُصلّينا
وليسَ يَهلكُ منّا سيدٌ أبداً ... إلاَّ افتلينا غُلاماً سيّداً فينا
إنّا لمن معْشرٍ أفنى أوائلهُمْ ... قولُ الكماة ألا أين المحامونا
لو كان في الألف منّا واحدٌ فدَعوا ... من فارس خالَهُمْ إيّاهُ يعنونا
ولا تراهم وإنْ جلَّتْ مُصيبتُهمْ ... مع البُكاةِ علَى من ماتَ يبكونا
إنّا لنُرخِصُ يوم الرَّوع أنفُسنا ... ولو نُسامُ بها في الأمن أُغلينا
بيض مفارقنا تغلي مراجلُنا ... نأسوا بأموالنا آثار أيدينا
وقال السموأل بن عادياء أوْ عبد الرحمن القيني أوْ عبد الملك الحارثي المعروف باللجلاج:
تعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنَّ الكرامَ قلِيلُ
وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكرمينَ ذلِيلُ
وما قلَّ منْ كانتْ بقاياهُ مثلنا ... شبابٌ تسامى للعُلى وكهولُ
لنا جبلٌ يحتلُّهُ مَن نجيرهُ ... منيف يردُّ الطَّرفَ وهوَ كلِيلُ
رسا أصلهُ تحتَ الثَّرى وسما بهِ ... إلى النَّجمِ فرعٌ لا ينالُ طوِيلُ
وما ماتَ منَّا ميِّتٌ حتفَ أنفهِ ... ولا طلَّ منَّا حيثُ كانَ قتِيلُ
تسيلُ على حدِّ السّيوفِ دماؤنا ... وليستْ على غيرِ الحديد تسِيلُ
ونحن أناسٌ لا نرى القتلَ سبَّةً ... إذا ما رأتهُ عامرُ وسلُولُ
يقرِّبُ حبَّ الموتِ آجالَنا لنا ... وتكرههُ آجالهمْ فتطُولُ
وننكرُ إنْ شئنا على النَّاسِ قولهمْ ... ولا ينكرونَ القولَ حينَ نقُولُ
إذا سيِّدٌ منَّا خلا قامَ سيِّدٌ ... قؤولٌ بما قالَ الكرامُ فعُولُ
وما أُخمدتْ نارٌ لنا دونَ طارقٍ ... ولا ذمَّنا في النَّازلينَ نزِيلُ
وأسيافنا في كلِّ شرقٍ ومغربٍ ... بها منْ قراعِ الدَّارعينَ فلُولُ
معودةٌ ألا تسلى نضالها ... فتغمد حتى يستباح قبيلُ
إذا المرءُ لمْ يدنسِ منَ اللُّؤمِ عرضهُ ... فكلُّ راءٍ يرتديهِ جمِيلُ
وإنْ هو لمْ يحملْ على النَّفسِ ضيمَها ... فليسَ إلى حسنِ الثَّناءِ سبِيلُ
وقال لقيط بن زُرارة:
وإنِّي من القوم الذين عرفْتَهُمْ ... إذا مات منهمْ سيّدٌ قام صاحبُ
نجومُ سماء كلما غاب كوكبٌ ... بدا كوكب تأوي إليه الكواكبُ
وقال الخريمي في نحوه:
بقيَّةُ أقمارٍ من الغُرِّ لو خَبَتْ ... لظلَّتْ مَعدٌّ في الدُّجى تتسكّعُ
إذا قمرٌ منها تَغوّر أوْ خبا ... بدا قمرٌ في جانب الأفق يَلْمعُ
وقال البعيث بن حُريث:
دعاني يزيد بعد ما ساءَ ظنُّهُ ... وعيسى وقد كانا علَى حدِّ مَنْكِبِ