فليتَ المنايا وحدَها سمحتْ بهِ ... ونازَعَنيهِ البينُ والهجرُ والغدرُ
وبلغني أنَّ جميلاً لمَّا حضرته الوفاة قال: من يأخذ ناقتي هذه وما عليها ويأتي ماء بني فلان فينشد عنده هذين البيتين؟ فقال له بعض من حضره: أنا، فأنشده:
ذكرَ النَّعيُّ وما كَنَا بجميلِ ... وثوَى بمصرَ ثواءَ غيرِ قُفولِ
غدرَ الزَّمانُ بفارسٍ ذِي بَهمةٍ ... ثبتٍ إذا جعلَ اللّواءُ يزولُ
فلمَّا قضى حياته أتى الرَّجل الماء الَّذي وُصف له فأنشد البيتين عنده فخرجت بُثينة ناشرةً شعرها شاقَّةً جيبها لاطمةً وجهها وهي تقول: يا أيُّها النَّاعي بفيكَ الحجرُ أمَا واللهِ لئنْ كذَبْتني لقد فضحتني ولئن كنتَ صدقتَني لقد قتلتني ثمَّ أنشأت تقول:
وإنَّ سلوِّي عنْ جميلٍ لساعةٌ ... منَ الدَّهرِ ما جاءتْ ولا حانَ حينُها
سواءٌ علينا يا جميلُ بنَ معمرٍ ... إذا متَّ بأساءُ الحياةِ ولينُها
ويقال أنَّها لم تقل شعراً غيره وذكروا أنَّ عروة بن حزام لمَّا انصرف من عند عفراء ابنة عقال فتوفِّي وجداً بها وصبابةً إليها مرَّ به ركبٌ فعرفوه فلمَّا انتهوا إلى منزل عفراء صاح صائح منهم:
ألا أيُّها القصرُ المغفَّلُ أهلهُ ... نعَيْنا إليكمْ عُروةَ بنَ حزامِ
ففهمت صوته ففزعت وأشرفت فقالت:
ألا أيُّها الرَّكبُ المُخِبُّونَ ويحَكُم ... بحقٍّ نعيتمْ عروةَ بنَ حزامِ
فأجابها رجل من القوم:
نعمْ قدْ تركناهُ بأرضٍ بعيدةٍ ... مُقيماً بها في سبسبٍ وأكامِ
فقالت لهم:
فإنْ كانَ حقّاً ما تقولونَ فاعلمُوا ... بأنْ قدْ نعيتمْ بدرَ كلِّ ظلامِ
فلا لقيَ الفتيانُ بعدكَ لذَّةً ... ولا رَجعوا مِنْ غيبةٍ بسلامِ
ولا وضعتْ أُنثَى تماماً بمثلهِ ... ولا فرحتْ مِنْ بعدهِ بغُلامِ
ولا لا بلغتمْ حيثُ وجِّهتمُ لهُ ... ونُغِّصتمُ لذَّاتِ طلِّ طعامِ
ثمَّ سألتهم أين دفنوه فأخبروها فسارت إلى قبره فلمَّا قاربته قالت: أنزلوني فإنِّي أُريد قضاء حاجةٍ فأنزلوها فانسلَّت إلى القبر فانكبَّت عليه فما راعهم إلاَّ صوتها فلمَّا سمعوه بادروا إليها فإذا هي ممدودة علَى القبر قد خرجت نفسُها فدفنوها إلى جنبه.
تمَّ القول ولله الحمد والمنَّة والصَّلاة علَى رسول الله.