إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:
فلقاؤنا متجدِّد بالخير والعِلم النَّافع والعمل الصَّالح -إن شاءَ اللهُ-، نتواصى فيه بالحق والصَّبر ممتَثِلين ومُتمثِّلين بما أرشدنا إليه قولُ ربِّ العالمين: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الإنسَان لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبر} [العصر]؛ فانطلاقًا مِن هذا الأساس، وصُدورًا عن هذا النَّهج؛ ننطلقُ -بمنَّة الله وعَونه- في إتمام أحكام الصِّيام في شهر رَمضان الذي نسألُ الله -عزَّ وجلَّ- أن يتقبلَ -منَّا ومنكُم- صِيامَه وقيامه -بمَنِّه وكرمه-جلَّ في علاه، وعَظم في عالي سَماه-.
بعد قوله -تبارك وتَعالَى-: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ماذا قَالَ؟ قَالَ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (إلى اللَّيل): أول اللَّيل، نصف اللَّيل، وسط اللَّيل؛ هذا ما جاءَتْ السُّنَّة المشرَّفة ببيانه.
وفي هذا دليل عمليٌّ تطبيقي: أن السُّنَّة النبويَّة مُبيِّنة لِمُجمَل القُرآن، ومُخصِّصة لعامِّه، ومُفصِّلة لما يحتاج التَّفصيل، ومُقيِّدة لما فيه إطلاق؛ لذلِك النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: «ألا إني أوتيتُ القُرآنَ ومِثلَه مَعَهُ»؛ بل النَّص القُرآني يؤكِّد على هذا المعنى -في بَيان منزلةِ السُّنَّة مِن القُرآن-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
فعندنا تنزيلان: تنزيل القُرآن؛ وهو الأصْل، ثم تَنزيل السُّنَّة؛ وهو البيان، وكلمة (البيان) تشمل ما ذكرت؛ مِن تقييد، أو تخصيص، أو تفصيل، حتى بعض أهلِ العِلمِ -وهم جمهور العُلمَاء- يقولون: (أو نسخ)؛ فالسُّنة قد تنسخ القُرآن، ثم اختلفوا: هل السُّنة المتواترة -فقط-؟ أم السُّنَّة حتى الآحاديَّة -أي: ما وردت عن آحادِ الصَّحابَة-؟
القولُ الأرجح هو الذي انتصَر إليه الإِمامُ العلامة محمد الأمين الشَّنقيطي -وهو مِن أجلِّ أئمة علم أصول الفِقه في هذا الزَّمان- في كتابه «أضواء البيان»؛ حيث بيَّن أنه إذا صحَّ الحَديثُ عن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-سواء أكان هذا الحَديث مُتواترًا، أو آحاديًّا-؛ فنحنُ نقولُ بأنه يَنسخ القُرآن.
ومِن باب الفائدة الزَّائدة أقولُ:
توهُّم بعضِ النَّاس، وزعمهم أن الحَديث الآحاديَّ لا يُقبَل في العقيدة -وهذه مَسألة أخرى-، وأن الحَديثَ المتواترَ هو الذي يُقبَل في العقيدة -فقط-؛ هذا زَعمٌ فاسِدٌ ردَّه الإِمامُ ابن القيِّم -رَحِمهُ اللهُ- في كتابه «الصَّواعق المرسَلة» ردًّا قويًّا عظيمًا جدًّا مِن عشرات الوجوه، وبيَّن أنه إذا صح الحَديثُ؛ فهو حُجة في باب العقيدة -كما هو حُجَّة في باب الأحكام-، والمفرِّق لم يَأتِ إلا بالظُّنون والأوهام -كائنًا مَن كان-.
ففي «الصَّحيحَيْن» -البخاري ومُسلم-: عن عمر -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ- قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «إذا أقبلَ اللَّيل مِن هَا هُنا» وأشار إلى جهةِ إقبال اللَّيل؛ إلى جهة المشرِق «وأدبَرَ النَّهار مِن هَا هُنَا» إلى جهة المَغرِب، «وغربتِ الشَّمسُ؛ فقد أفطرَ الصَّائمُ».
إذًا: هذه ثلاثُ علاماتٍ؛ بعضُها مَوصول ببعضٍ.
¥
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 935