نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 433
هذا، ولو قلنا: إن كانت الحسنة توبة صحيحة من جميع الذنوب مستجمعة للشروط أو قربة أخرى، لكنها اشتملت على توبة صحيحة كذلك- كانت الحسنة مكفرة لجميع المعاصي كبيرة كانت أو صغيرة؛ لأنها إما توبة صريحة وإما توبة معنى. وعلى ذلك يحمل قول من قال: بعموم التكفير بالقربات، وأن مراده القربات التي هي توبة من الذنوب أو متضمنة للتوبة منها. وإن لم تكن الحسنة والقربة توبة ولا مشتملة على توبة كانت مكفرة للصغائر فقط. وعلى ذلك يحمل قول من قال بعدم عموم التكفير، وأن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة، وأن مراده بالقربات التي لا تكفر الكبائر القربات التي لا تكون توبة من المعاصي ولا مشتملة على توبة منها- لكان ذلك توفيقا حسنا بين القولين، وبه يرتفع الخلاف ويحل الوفاق محل الشقاق، فليكن التوفيق بتوفيق الله تعالى.
وقالت المعتزلة: إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد اجتناب الكبائر، ولا دخل للقربات في تكفير الصغائر أيضا، واستدلوا عليه بقوله تعالى: "إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ".
وأقول: لا دليل في الآية على ما زعموا؛ لأننا إما أن نقول بحجية مفهوم المخالفة للشرط أو لا نقول بحجيته. أما على القول بحجيته فالمعنى إن اجتنبتم الكبائر نكفر سيئاتكم، وإن لم تجتنبوا لا نكفرها، فيدل المفهوم على ما زعموا. لكن قد عارض ذلك المفهوم منطوق العام في قوله تعالى: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ"، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "أتبع السيئة الحسنة تمحها"، وقد علمت أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. واجتناب الكبائر إنما يكفر السيئات باعتبار كونه حسنة وقربة؛ لما صرحوا به أنه إنما يكفرها إذا كان مع القدرة والإرادة وكف النفس، ومرادهم بالإرادة الميل لا التصميم والعزم الذي يستعقب الفعل، وقد عارضه أيضا الأحاديث الكثيرة التي دلت على تكفير الصغائر بالقربات. والمنطوق حجة اتفاقا والمفهوم في حجيته خلاف، فيقدم عليه المنطوق.
وأما على القول بعدم حجية مفهوم المخالفة فالأمر ظاهر، وتكون الآية ساكتة عما عدا اجتناب الكبائر من القربات، وقد نطق غيرها من النصوص بأن غير الاجتناب من القربات يكفر كالاجتناب، فيخلص المنطوق عن المعارض بالكلية.
بقي هنا إشكال وهو أنه إذا كان كل واحد من المكفرات مكفرا للصغائر فقط أو لها وللكبائر، وحصل التكفير بأحدها- فما فائدة الباقي؟ وأجيب عن ذلك بأن المراد أن كل واحدة من هذه المكفرات صالحة للتكفير؛ فإن صادفها شيء من الذنوب كفرته، وإن لم يصادفها شيء منها كانت حسنة لفاعلها يرفع بها درجة.
ومتى علمت مما أوضحنا أن من أهل السنة من قال بعموم تكفير القربات للصغائر والكبائر علمت أن ما نقله الشيخ في صغراه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم هو مذهب ذلك البعض، وقوله: أربعة آلاف ذنب من الكبائر- قصد به المبالغة في الكثرة، لا خصوص ذلك العدد. ونقل الشيخ لهذا عن بعض الأصحاب وسكوته عليه ربما يكون ميلا منه إلى مذهب من يقول من أهل السنة بعموم التكفير.
ومتى علمت أيضا مما أوضحنا أن قبول التوبة عند أهل السنة ليس واجبا على الله تعالى عقلا، كما أنه لا يجب عليه عندهم إثابة الطائع ولا تعذيب العاصي، بل الثواب بفضله والعقاب بعدله، يفعل ما يشاء ويحكم سبحانه لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه-
علمت أن كلا من المطيع والعاصي بعد التوبة والتكفير وقبل ذلك جميعا تحت مشيئة الله سبحانه، وكونهم جميعا تحت مشيئته يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا ينافي النص والإخبار منه تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن القربات تكفر الذنوب، وأن التوبة تمحو السيئات فضلا منه وكرما. والتنصيص على بعض القربات في بعض الأحاديث والآثار كالذي نقله الشيخ في صغراه لا يقتضي الخصوصية، بل ذلك لبيان أن ما نص عليه من جملة المكفرات، والنص على شيء لا ينفي الحكم عما عداه. وبذلك سقط السؤال وزال الإشكال.
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 433