الضابط الثاني: أن تقع النُّصرة بطرق شرعية ووسائل مجدية موصلة إلى الأغراض الشرعية.
إن النُّصرة المعتبرة – شرعاً- والغالبة – قدراً- هي التي تقوم بالشجاعة الإيمانية لا بالاندفاعات العاطفية، وبالغيرة الشرعية لا بالانفعالات النفسية، وبالحمية الإسلامية لا بالحمية الجاهلية، وبالوسائل الشرعية لا بالطرق البدعية، وبالآداب الحميدة لا بالأخلاق الذميمة، وهي التي تصان بوصايا الأنبياء لا بوساوس الشيطان، وتدوم بالسياسات العادلة لا بالسياسات الجائرة، وهي التي توجه بنصائح العلماء لا بتوجيهات الدخلاء، ووهي التي تقرر في مجالس الحكماء لا في مجامع الغوغاء ... فهي نصرة شرعية جامعة بين الوسائل النافعة والمقاصد السامية بلا إفراط ولا تفريط.
ومن المعلوم أنه لم يكن دفع المؤمنين عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في وقت البعثة النبوية- قائماً على مبدأ الاستئصال والانتقام؛ بل كان دفع حرص ورغبة وطمع في إيمان أولئك الكفار المعتدين من جهة، ودفع شرهم عن الإسلام وأهله بحسب الإمكان من جهة أخرى؛ فدفعوا بالتي هي أحسن إلى التي هي أقوم؛ وقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بذلك؛ فقال تعالى في آية مكية: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] {المؤمنون:96}؛ قال ابن كثير رحمه الله: "ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى من يسيء، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة" ([10] (http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?p=33174#_ftn10)).
وقال تعالى –أيضاً-: [وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34}.
قال الرازي رحمه الله: "يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق؛ فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة" ([11] (http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?p=33174#_ftn11)).
ولم يقف الأمر بالنسبة إلى معاملة المشركين عند الدفع بالتي هي أحسن؛ بل كان دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم دفع من يريد أن يعود إليهم؛ لهذا أظهرت الآية المصلحة من المدافعة بالحسنى: ? فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ?؛ أي: يتحول العدو إلى وليِّ صديق.
وهذا المعنى ظاهر في آية مكية أخرى؛ كما قال تعالى: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا] {المزمل:10}، والهجر في الآية: "هو الهجر حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن" ([12] (http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?p=33174#_ftn12)).
وقد فسّر الشيخ عبد الرحمن حبنّكة الميداني الهجر الجميل؛ فقال: "والهجر الجميل هو الهجر الذي لم يقترن بغضب ولا مخاصمة ولا عتاب، فهو هجرُ الراغب في العودة إلى المهجورين، الحريص على خيرهم ونجاتهم وسعادتهم، ودخولهم في عباد الله الصالحين" ([13] (http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?p=33174#_ftn13)).
وقد تكرّر هذا المعنى في السور المدنية؛ فقال تعالى: [عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الممتحنة:7}.
وجاء هذا المعنى في السّنة النبوية – أيضا-؛ كما في حديث رجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الطائف، وقال له ملك الجبال: [إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا] ([14] (http://www.ahlalloghah.com/showthread.php?p=33174#_ftn14))، وقد دخل كثير من الناس في الإسلام ممن شملهم رجاء النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكانوا بمكة مدفوعين، وبالمدينة يدفع الله بهم الكفار.
¥
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 334