نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1323
للدنيا بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدُّنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواما، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين، وهو أحب الأمور إلى الله تعالى).
والمقارنة بين الإحياء وصحيح البخاري ومسلم مقارنة غير صحيحة، فالإحياء من كتب إصلاح النفوس وتزكيتها، وأما صحيح البخاري ومسلم فمن متون السُّنَّة النبويَّة، ويمكن المقارنة مثلاً بين الإحياء ومدارج السالكين.
الإطار الذي تقرأ فيه كتب ال تراث، «إحياء علوم الدين» نموذجاً:
إنَّ كتب ال تراث على تنوُّعها واختلاف موضوعاتها، وما يثور حولها من جدل واختلاف ينبغي أن تقرأ في إطار الحقائق التالية:
1ـ أن تكون محكومةً بالمنهج الشرعيِّ الوسطيِّ، وأن نحتكم معها إليه، وهو المنهج الذي تؤيِّده نصوص الكتاب والسُّنَّة، بلا غلوٍّ ولا انحراف.
2ـ م اغلب منها خيره، وعظم نفعه، وقلّ خطأه، يُقبل ويُعتدُّ به، ويُحذر خطؤه ويجتنب، ويُنبَّه عليه بما يناسب من آداب الشريعة وإرشادها، ويدخل ذلك تحت القاعدة الحكيمة: «خذ ما صفا، ودع ما كدر»، ولو أنَّ الناس احتكموا إلى هذه القاعدة اليوم وحكَّموها، لوفَّروا كثيراً من الجهود والطاقات، والأموال والأوقات.
ومن هذا المنطلق لم يهدر علماء أهل السنّة تفسير الإمام الزمخشريِّ المعتزليِّ وتراثه وتراث أمثاله، وإنَّما تعقَّبوا أخطاءه ونبَّهوا عليها، نصحاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه ودينه.
3ـ ليس من منهج أهل السُّنَّة وخيار هذه الأمّة التشهير بما قلّ خطأه، وكثر خيره، مع إغفال حسناته ومزاياه، فليس ذلك من العدل والإنصاف، بل هو من الشطط، وبخس الناس أشياءهم. ولو اتُّبع هذا المنهج المجانف للحقِّ لأُهدرت أكثر كتب التراث، وخسرنا الاستفادة منها.
4ـ ما وقع من أخطاء علميَّة أو اجتهاديَّة في كثير من كتب التراث إنَّما سببه تأثير البيئة الجانحة عن الحقِّ، المجانبة لمنهج الاعتدال، فرُبَّما لجأ بعض الدعاة الربّانييّن إلى اتِّخاذ منهج مبالغ فيه في الاتّجاه الآخر في ظاهر الأمر، لردّ الناس إلى منهج الاعتدال المطلوب، وهم أعلم الناس به، ولا يجهلونه، ولا يرتضون عنه بدلاً.
«إحياء علوم الدين» كتاب كتب الله له القبول بين الناس، وتلقَّته خيار الأُمَّة بالاعتناء والاهتمام، وانتفعت به جيلاً بعد جيل، ومؤلّفه الإمام الغزاليُّ حُجَّة الإسلام شهد له الأئمّة المعتبرون بذلك، وعدُّوه مجدِّد الإسلام في قرنه، ويكفي الكتاب ومؤلِّفه شهادة أنَّ كلَّ مَنْ أتى بعده، وكتب فيما كتب نسج على منواله، واقتفى آثاره، واستفاد منه، ودونكم التاريخ يشهد بما نقول، وهو شاهد صدق، وحكم عدل.
وهو اسم على مسمَّى، إذ كان إحياء لما خفت نوره من علوم الدين، وامَّحت آثاره من حياة الناس، فنهض هذا الإمام الجليل لإحيائها وتجديدها، ووضعها في مسارها الصحيح، وبؤرة التأثير والتغيير، فأحيا بعمله الأمّة، وجدّد انبعاثها ..
والكتاب كلّه يقوم على ق اعدة أساسيَّة، تتلخَّص بكلمتين، تقرأهما في كلِّ باب من أبوابه، أو فصل من فصوله: تصحيح المعاملة مع الله تعالى، ومع عباد الله على أساس من العلم والعمل، مع الاستهداء بفهم السلف وأحوالهم ..
ومن هذا المنطلق فقد حوى الكتاب حشداً من النصوص ال شرعيّة، وبخاصَّة من الأحاديث النبويَّة، وإذ كان المؤلّف لم تكن له عناية خاصّة بعلم الحديث، وتخصُّص فيه، فقد كثرت في كتابه الأحاديث الضعيفة، وما لا أصل له معتبر، ممّا أضعف قيمته العلميَّة، فنهض الإمام المحدِّث العراقيُّ بتخريج أحاديثه لتلافي هذا الخلل، وسدَّ هذا النقص، فأصبح كلُّ قارئ للإحياء على بيّنة من أحاديثه فيترك ما لا يصح الاحتجاج به، وكلٌّ يُؤخَذُ مِنْ قوله ويُرَدُّ إلا مَنْ عصمه الله تعالى.
وهكذا كان أدب علمائنا، أن يستدرك اللاحق على السابق، ويكمِّل عمله النافع، ولا يلغيه ولا ينتقصه، وهذا من علامات إخلاصهم لدين الله، ونصحهم لعب اد الله، وتجرُّدهم عن حظوظ النفس وأهوائها، وهو أدب فقدناه في أيّامنا فأسأنا لأنفسنا وتراثنا، وأصبح بأسنا بيننا، وأشمتنا بنا عدوّنا، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
¥
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1323