responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين    جلد : 1  صفحه : 1205
وأمَّا معاني الأبياتِ، فإنَّ أكثرَها في بابِ الحِكمةِ من التنبيه علَى الأخلاقِ الحسنةِ كالكرَم، والشجاعةِ، والوفاء، والنَّجدة، والدعوةِ إليها، والزَّجرِ عن الأخلاقِ المستهجَنة كالخيانة، والبخلِ، ونحوِها. وهذا من مَّا يعرِّفُك آياتِ الوضعِ فيها، لأنَّ الحِكمةَ لم تكن هي غرضَ العربِ الأوَّلَ، وليست هي قِوامَ أشعارِهم، وإنَّما كانُوا يفصِّلونَ بها كلامَهم، وكانُوا يَكرهُونَ أن يجعلُوا القصيدةَ كلَّها حِكمًا، حتَّى عابُوا بذلك سابقًا البربريَّ، وقالُوا في ما زعمَ أبو عثمانَ: (لو أن شِعْرَ صالح بن عبد القدوس، وسابقٍ البربريِّ كانَ مفرَّقًا في أشعارٍ كثيرةٍ، لصارت تلك الأشعارُ أرفعَ من مَّا هي عليه بطبقاتٍ، ولصارَ شِعْرُهما نوادرَ سائرةً في الآفاقِ، ولكنَّ القصيدةَ إذا كانت كلُّها أمثالاً، لم تسِرْ، ولم تجْرِ مجرى النَّوادرِ. ومتى لم يخرجِ السَّامعُ من شيءٍ إلى شيءٍ، لم يكن لذلك عنده موقعٌ) [البيان والتبيين 1/ 179].
ثمَّ هم علَى ذلكَ ينبِذونَ بالحِكمةِ نَبذًا، ويُخرِجُونها مُخرَجَ الكنايةِ، والإيماءِ كقولِ زهيرِ بنِ أبي سُلمَى:
فما كانَ مِن خيرٍ أتَوه فإنَّما ... توارَثَه آباءُ آبائِهم قبلُ
وهل يُنبِت الخَطِّيَّ إلا وَشيجُه ... وتُغرَس إلا في منابتِها النَّخْلُ
وربَّما ذيَّلوا بها البيتَ من الشِّعر، كقولِ الحطيئة:
نزورُ فتًى يُعطِي على الحمدِ مالَه ... ومن يُعطِ أثمانَ المحامِدِ يُحمَدِ
وقلَّما أفردُوا لها بيتًا. ومن ذلكَ قولُ امرئ القيس:
إذا المرءُ لم يَخزُن عليه لسانَه ... فليسَ على شيءٍ سِواه بِخَزَّانِ
ولا يستحِبُّونَ أن يجبَهُوا بها المخاطَب من طريقِ الأمرِ، أو النَّهي خلافًا لما تراه في أبيات ابنِ مالكٍ من نحو قولِه:
تعلَّمْ شِفاءَ النفس قهرَ عدوِّها ... فبالغْ بلُطفٍ في التحيُّلِ، والمكرِ
وقولِه:
غيرُ لاهٍ عِداكَ، فاطَّرِحِ اللَّهْـ ... ـوَ، ولا تغترِرْ بعارضِ سِلْمِ
إذْ كانَ ذلكَ باعثًا على نفورِه، وأنَفتِه، وهو بعدُ مجانِبٌ لطبيعةِ الشِّعر القائمِ علَى اللمحةِ الدالَّة، والكنايةِ الخفيَّة، وعلى لُطفِ التأتِّي، والإقناعِ.
فهذا مذهبُ الشُّعراءِ الأوائلِ في وضعِ الحِكَمِ، وهذه سبيلُهم التي يسلُكُونَ. ولربَّما تصفَّحتَ القصائِد الطِّوالَ فلا تجِد من أبياتِ الحِكمة إلا النَّزْرَ القليلَ. وهذه شواهِد سيبويهِ مختلِفة الأغراضِ، متنوِّعة المعاني، فهذا يصِف ناقتَه بقولِه:
تنفِي يداها الحصَى في كلِّ هاجِرةٍ ... نفي الدنانيرِ تنقادُ الصياريفِ
وهذا يمدحُ قومَه بقولِه:
بني أسدٍ، هل تعلَمونَ بلاءَنا ... إذا كانَ يومًا ذا كواكبَ أشنَعا
وذلك يرثِي بقولِه:
لما أتَى خبرُ الزّبيرِ تضعضعتْ ... سورُ المدينة، والجِبالُ الخُشَّعُ
وهذا يتوجَّع بقولِه:
أصبحتُ لا أحمِل السِّلاحَ، ولا ... أملِك رأسَ البعيرِ إن نفرَا
وإذا كانَت أبياتُ الحِكمة في الشعر القديم من القِلَّة بحيثُ علِمتَ، فينبغي إذن أن تكونَ شواهِدها أقلَّ من شواهِد غيرِها كما هو مقتضَى التناسُب، فكيفَ صارَت هي أكثرَ أبيات ابن مالكٍ؟
وأينَ ذهبت أغراضُ الشِّعر الأخرَى؟
وما لَنا لا نجِد في هذه الأبياتِ ما يمثِّل حياةَ العربِ، وألوانَ معيشتِهم، ومختلِف أحوالِهم؟ وكيفَ لم نرَ فيها ذِكرًا لإبلِهم، وخيلِهم، ووقائعِهم، وأسماءِ قبائلِهم، ورجالِهم كما في شواهِد النُّحاةِ الصحيحة؟
علَى أنَّ في هذه الأبياتِ كثيرًا من المعاني الإسلاميَّة كذكرِ الجنَّة، والنَّار، والحِساب، والقدَر، وغيرِها. وهذا ما لا يُعهَد في الشِّعر القديمِ الموثوقِ بصِحَّتِه، وإنَّما تجِد ذلك عندَهم قليلاً مفرَّقًا، وأكثرُه في الشِّعر الإسلاميِّ. ومنه قولُه:
أعوذ بربِّ العرشِ من فئةٍ بغَت ... عليَّ، فما لي عوضُ إلاهُ ناصِرُ
وقولِه:
ولو مثل تربِ الأرضِ دُرًّ، وعسجدًا ... بذلتُ لوجه الله، كانَ قليلا
وقولِه:
ألا ليس إلا ما قضَى الله كائنٌ ... وما يستطيع المرءُ نفعًا، ولا ضرّا
وقولِه:
لا ترجُ، أو تخشَ غيرَ الله، إن أذًى ... واقيكَه الله لا ينفكُّ مأمونا
كما أنَّ معظَم معاني هذه الأبياتِ في الغايةِ من السقوطِ، والغثَاثةِ!
ودونَك مثَلاً قولَه:
ما شاءَ أنشأ ربِّي، والذي هو لم ... يشأ فلستَ تراه ناشئًا أبدا
وهل هذا إلا كقولِ الآخَر:
عجَبٌ عجَبٌ عجَبٌ عجَبُ ... بقرٌ تمشي ولها ذنبُ
ولها في بُزبزِها لبَنٌ ... يبدو للناس إذا حلبُوا
وقولَه:
دُرِيتَ الوفيَّ العهدِ يا عروَ، فاغتبِط ... فإن اغتباطًا بالوفاءِ حَميدُ
يريدُ أن يقولَ لهذا المسمَّى بعروةَ: أنت وفيٌّ بالعهدِ، فافرحْ، فإنَّ الفرح بالوفاءِ أمرٌ محمودٌ.
فهل رأيتَ أسخفَ من هذا المعنى؟
وقولَه:
غيلانُ ميَّةَ مشغوفٌ بها هو مذ ... بدَت له، فحِجاه بان، أو كرَبا
يريدُ أن يقول: إن ذا الرمة مشغوفٌ بميَّة، ولكنَّه لا يدري أذهبَ حجَاه من شغفِه بها، أم كادَ يذهب، فتورَّع من أن يقطَعَ بأحدِهما!
وهذه الأبياتُ كما ترَى نظمٌ ميِّتٌ لا روحَ فيه، ولا يمكِن أن تخرجَ من فمِ شاعرٍ.
ومن الدليلِ أيضًا على اختلاقِ هذه الأبياتِ أنَّ كلَّ بيتٍ مِنها مستقِلٌّ بنفسِه، لا يحوِج فَهمُه إلى قراءةِ ما قبلَه، ولا ما بعدَه. وهذا ينبئك أنَّه وُضِعَ فَرْدًا، وليس بمنتزَعٍ من قصيدةٍ. وإذا نظَرت في شواهدِ النَّحْو الصحيحة كشواهدِ سيبويهِ مثَلاً، فربَّما أعياك فهمُ البيتِ منها إلا بقراءةِ البيتِ الذي قبلَه، أو الذي بعدَه. وذلك كبيتِ أبي ذؤيبٍ الهذليِّ الذي أنشدَه:
قلَى دينَه، واهتاجَ للشوقِ، إنَّها ... على الشوقِ إخوانَ العزاءِ هَيُوجُ
فإنَّك لا تفهَم معناه حتَّى تقرأ البيتَ الذي قبلَه:
لياليَ سُعدَى لو تراءَت لراهبٍ ... بدومةَ تَجْرٌ عندَه، وحجيجُ
وهذا كثيرٌ شائِعٌ.

يُتبع
¥

نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين    جلد : 1  صفحه : 1205
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست