فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلًا على أنه منه -أعني: من عند الله -تبارك وتعالى- ودليلًا أيضًا على وحدانيته، وفي هذا أمران؛ أحدهما: التحدي الإلهي، والآخر: أنهم لم يأتوا إليه بمثله، والذي يدل على ذلك العلم المتواتر الذي يقع به العلم الضروري، فلا ينكر جحود واحد من هذين الأمرين -أعني: تحدي الله -عز وجل- للعرب بالقرآن وأنهم لم يأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم- فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم الإتيان بمثله كان لعجزهم عنه، والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن الكريم أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي، وجعله دلالة على صدقه ونبوته، فقد تضمنت أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم، وسبي ذريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه بأمر قريب هو عادتهم في لسانهم ومألوفٌ من خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان وعن تسليم الأهل والذرية للسبي؛ فلما لم يحصل هناك معارضة منهم، عُلِم أنهم عاجزون عنها، ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره، وتكذيب قوله، وتفريق جمعه، وتشتيت أسبابه، وكان من صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه، فلما لم يفعلوا شيئًا من ذلك -مع طول المدة ووقوع الفسحة- وكان أمره يتزايد حالًا فحالًا، ويعلو شيئًا فشيئًا، وهم على العجز عن القدح في آياته والطعن في دلالته عاجزون، علم علمًا بينًا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته ولا على توهين حجته، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- أنهم قوم خصمون.
وقال: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} (مريم: 97) وعلم أيضًا أنهم ما كانوا يقولون من وجوه اعتراضهم على القرآن مما حكى الله -عز وجل- عنهم من قولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: 31) وقالوا أيضًا عن القرآن: