{مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (القصص: 36) وقالوا أيضًا: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر: 6) وقالوا أيضًا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفرقان: 4، 5) .... إلى آيات كثيرة نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمورهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل وتعذير، وموافقة بما وقع التحدي إليه، وعرف الحث عليه، وهذا أيضًا من أكبر الأدلة على عجزهم، وأن القرآن الكريم كتاب الله حقًّا المعجز الباقي الخالد.
وقد عُلم أن العرب ناصبوا القرآن الحرب، وناصبوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- العداء، وجاهروه ونابذوه وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان بغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجزيه؛ ليظهروا عليه بوجه من الوجوه؛ فكيف يجوز إذن أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم، وذلك يدحض حجته، ويفسد دلالته، ويبطل أمره، فيعدلون عن ذلك إلى ما ساروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة؟ ويُترك الأمر الخفيف؟ هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء، ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على المعارضة والإتيان بمثل ما أتى به لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم ما هم عليه من السلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يقرِّعهم ويؤنبهم عليه، وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يطلب منهم كما أشرت وذكرت أن يعارضوه أو يأتوا بشيء من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وقد ذكر الله -عز وجل- عنهم فيما ذكر أنهم ما استطاعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولو اجتمع على ذلك الإنس والجن، وهذا فيه تفخيم لكتاب الله -تبارك وتعالى- وإعلاء من شأن هذا الكتاب المعجز، تأملوا قول الحق -تبارك وتعالى-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)