كلا الموضعين من رؤية عالَمِ المِثَال. وفيه الكمية دون المادية كَشَبَحِ المرآة، فالعوالم متعدِّدة وهو رب العَالَمِيْن، كما أن الوجود متعدد عند الفلاسفة خارجي وذهني. وأنكر المتكلمون الثاني، نعم عندهم نحوٌ آخر من الوجودِ يسمّى بالتقديري وعند الدَّوَّاني نحوٌ آخر يسمى الدهري. فكذا عالم المثال أيضًا نحوٌ من الوجود. ثم إن عالمَ المثال ليس اسمًا للحيِّز، بل هو اسم لنوعٍ من الموجودات، فأمكن أن يكونَ في هذا الحيِّز أشياء من عالم المثال. ثم اعلم أن ما يَرَوُنَه الأولياء من الأشياء قبل وجودها في العالم لها أيضًا نحو من الوجود، كما أن أبا يزيد البِسَطامي رحمه الله تعالى لما مرَّ من جانب مدرسةٍ وهَبَّتْ ريحٌ قال: إني أجد منها ريحَ عبدٍ من عباد الله، فنشأ منه الشيخ أبو الحسن الخرقاني. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلّم «إني أجد نفس الرحمن من اليمن» فنشأ منه الأويس القرني. فهذا أيضًا نحوٌ من الوجود وذكر الشيخ الأكبر أن الشيء إذا نزل من العرش فلا يمرّ بموضعٍ إلا ويأخذ حُكْمه وما من شيءٍ، يَنْزِل على الأرض إلا ويكونُ على السماء الدنيا قبل نزوله بسنة.
قلت: وهذا من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله، ولكني أُسَلِّم أن الأشياء تنزل من السماء لما في الحديث أن البلأَ ينزل من المساء ويَعْرِجُ الدعاء من الأرض فلا يَزالُ يدافِعُ أحدُهُما الآخرَ إلى يوم القيامة فلا يَنْزِلُ هذا ولا يَعْرِج هَذا بل يبقى معلقًا أبد الدهر.
قوله: (المسيح) أصله عِبْري من «الماشيح» أي المبارك وليس عربيًا، فاشتقاق أمثالِ تلك من العربية لا يَصِحّ. قيل: إن لقب الدجال المَسِّيْح بتشديد السين. قلت: بل لقبهما هو المسيح، ووجه الاشتراك في اللقَّب أن كلاهما قد أخبرا عن مَجِيْئِهِمَا في الكتب السّالِفة، فلما جاء المسيح المبارك جعله اليهود مسيحَ الضَّلالة والدجَّال وصاروا له أعداءً والعياذ بالله. ولما يَخْرُج الدجَّال يجعلونَه المسيحَ المباركَ. ولذا يكون أكثر اتباعه اليهود فجاء الاشتراك لهذا، ولذا ترى في الأحاديث المسيحَ مقيدًا بالدجّال تارةً والضلالةِ تارةً وبلفظِ الهُدى أخرى؛ ليحصلَ التمييزُ بينهما. وراجع الفوائد للشاه عبد القادر رحمه الله تعالى فإنه أشار إليه.
قوله: (بهذا الرجل) إشارة إلى الحاضر في الذهن، كما في تنوير الحوالك شرح الموطأ لمالك رحمه الله تعالى للسيوطي رحمه الله تعالى.
قوله: (نم صالحا) يُستفاد منه أن القبورَ معطَّلةٌ عن الأعمال مع أن كثيرًا من الأعمال قد ثبتت في القبور كالأذان والإقامة عند الدارمي، وقراءة القرآن عند الترمذي، والحج عند البخاري، وراجع له «شرح الصدور» للسيوطي رحمه الله تعالى.
وهكذا في القرآن إيهام الجانبين ففي سورة يس: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] وهذا يدل على أنه لا إحساس في القبر وكلُّهم نائِمون. وفي آيةٍ أخرى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] فهذه تدل بخلافه، والوجه فيه عندي: أن حالَ البرزخ تختلف على حسب اختلاف عمل العاملين في حياتهم، فمنهم نائمون في قبورهم، ومنهم متلذِّذون فيه، وإنما عُبِّرتْ الحياةُ البرزَخِيَّة بالنوم لأنه لم يكن له لفظ في لغة العرب يؤدي مؤدَّاه، ويصرِّح عن معناه وضعًا، فاختير اللفظُ الموضوعُ لنظيره تفهيمًا، فلا شيء أشبه بالحياة البَرْزَخِيَّة من النوم. ولذا جاء في