سبب اختلافهم:
يتضح مما سبق أن سبب اختلاف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيما ذهبوا إليه، هو ما يُظن من تعارض الآثار في المسألة. وقد نبّه على ذلك ابن رشد. فقال: “سبب اختلافهم: أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر: أحدهما، حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا أمّن الإمام فأمّنوا”. والحديث الثاني، ما خرّجه مالك عن أبي هريرة أيضاً أنه قال: صلى الله عليه وسلم: “ إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين “ [1].
فأما الحديث الأول، فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني، فيُستدل منه على أن الإمام لا يؤمّن. وذلك أنه لو كان يؤمّن، لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمّن الإمام، لأن الإمام كما قال عليه الصلاة والسلام: “ إنما جعل الإمام ليؤتم به “. إلا أن يُخص هذا من أقوال الإمام. أعني: أن يكون للمأموم أن يؤمن معه، أو قبله. فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين. ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط.
ولكن الذي يظهر: أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه، لكون السامع هو المؤمّن، لا الداعي.
وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول، لكونه نصاً، ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام. وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط. لا في هل يؤمِّن الإمام، أو لا يؤمِّن؟ فتأمل هذا.
ويمكن أيضا أن يُتأول الحديث الأول، بأن يقال: إن معنى قوله: ” فإذا أمن الإمام فأمنوا “ أي: فإذا بلغ موضع التأمين. وقد قيل: إن التأمين، هو الدعاء. وهذا عدول عن الظاهر، لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس. [1] الموطأ في النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام 1/87. والحديث متفق عليه. وقد تقدم تخريجه، والإشارة إلى رواية مالك.