responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 3178
والقرآن هنا يعلمهم أن الله، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض، هو «الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» .. فهو القوي القادر، وهو العليم العارف. فيبدأ بهم من اعترافهم، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف.
ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ..
وحقيقة جعل هذه الأرض مهدا للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب- لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا- والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان.
ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهدا لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار، حتى صار مهدا لبني الإنسان. وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء؟
ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها، فأفلت هواؤها كالقمر مثلا! وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقا، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحيانا بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا! ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجارا! ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهدا وتذليل السبل فيها للحياة، أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت. فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا، ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها، والاحتفاظ بجوها دائما في حالة تسمح للأحياء بالحياة. ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسيجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها ولولا هذه الموازنة لا ختنق الأحياء بعد فترة من الزمان.
وهكذا. وهكذا. من المدلولات الكثيرة لحقيقة: «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» تتكشف لنا في كل يوم وتضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة. وكلها تشهد بالقدرة كما

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 3178
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست