نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3177
ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف:
«أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟» ..
ولقد كان عجيبا- وما يزال- أن يعنى الله سبحانه- في عظمته وفي علوه وفي غناه- بهذا الفريق من البشر، فينزل لهم كتابا بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم، ويبين لهم طريق الهدى، ويقص عليهم قصص الأولين، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين.. ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون! وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته، جزاء إسرافهم القبيح! وإلى جانب هذا التهديد يذكرهم بسنة الله في المكذبين، بعد إرسال النبيين:
«وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» ..
فماذا ينتظرون هم وقد أهلك الله من هم أشد منهم بطشا، حينما وقفوا يستهزئون بالرسل كما يستهزئون؟
والعجيب- كان- في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله، وخلقه للسماوات والأرض. ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام! والقرآن يعرض اعترافهم، ويرتب عليه نتائجه، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام. ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ، فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ، وَتَقُولُوا: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا، وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» ..
لقد كانت للعرب عقيدة- نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه السّلام، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير- وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون، وأنه هو الله، فما يمكن- في منطق الفطرة وبداهتها- أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله. ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها:
«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ... » ..
وواضح أن هاتين الصفتين: «الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» ليستا من قولهم. فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو «الله» .. ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام. هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثرا فعالا في حياتهم وحياة هذا الكون. كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون، وخالقا لهم كذلك.
ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء. لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3177