نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3114
والاستواء هنا القصد. والقصد من جانب الله تعالى هو توجه الإرادة. و «ثُمَّ» قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للارتقاء المعنوي. والسماء في الحس أرفع وأرقى.
«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» .. إن هناك اعتقادا أنه قبل خلق النجوم كان هناك ما يسمى السديم.
وهذا السديم غاز.. دخان «والسدم- من نيرة ومعتمة- ليس الذي بها من غاز وغبار إلا ما تبقى من خلق النجوم. إن نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار. ومن هذين تكونت بالتكثف النجوم. وبقيت لها بقية. ومن هذه البقية كانت السدم. ولا يزال من هذه البقية منتشرا في هذه المجرة الواسعة مقدار من غاز وغبار، يساوي ما تكونت منه النجوم. ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها. فهي تكنس السماء منه كنسا. ولكن الكناسين برغم أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من ساحات أكبر وأشد هولا» [1] وهذا الكلام قد يكون صحيحا لأنه أقرب ما يكون إلى مدلول الحقيقة القرآنية: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» .. وإلى أن خلق السماوات تم في زمن طويل. في يومين من أيام الله.
ثم نقف أمام الحقيقة الهائلة:
«فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً. قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ» ..
إنها إيماءة عجيبة إلى انقياد هذا الكون للناموس، وإلى اتصال حقيقة هذا الكون بخالقه اتصال الطاعة والاستسلام لكلمته ومشيئته. فليس هنالك إذن إلا هذا الإنسان الذي يخضع للناموس كرها في أغلب الأحيان.
إنه خاضع حتما لهذا الناموس، لا يملك أن يخرج عنه، وهو ترس صغير جدا في عجلة الكون الهائلة والقوانين الكونية الكلية تسري عليه رضي أم كره. ولكنه هو وحده الذي لا ينقاد طائعا طاعة الأرض والسماء. إنما يحاول أن يتفلت، وينحرف عن المجرى الهين اللين فيصطدم بالنواميس التي لا بد أن تغلبه- وقد تحطمه وتسحقه- فيستسلم خاضعا غير طائع. إلا عباد الله الذين تصطلح قلوبهم وكيانهم وحركاتهم وتصوراتهم وإراداتهم ورغباتهم واتجاهاتهم.. تصطلح كلها مع النواميس الكلية، فتأتي طائعة، وتسير هينة لينة، مع عجلة الكون الهائلة، متجهة إلى ربها مع الموكب، متصلة بكل ما فيه من قوى،. وحينئذ تصنع الأعاجيب، وتأتي بالخوارق، لأنها مصطلحة مع الناموس، مستمدة من قوته الهائلة، وهي منه وهو مشتمل عليها في الطريق إلى الله «طائِعِينَ» ..
إننا نخضع كرها. فليتنا نخضع طوعا. ليتنا نلبي تلبية الأرض والسماء. في رضى وفي فرح باللقاء مع روح الوجود الخاضعة المطيعة الملبية المستسلمة لله رب العالمين.
إننا نأتي أحيانا حركات مضحكة.. عجلة القدر تدور بطريقتها. وبسرعتها. ولوجهتها. وتدير الكون كله معها. وفق سنن ثابتة.. ونأتي نحن فنريد أن نسرع. أو أن نبطئ. نحن من بين هذا الموكب الضخم الهائل.
نحن بما يطرؤ على نفوسنا- حين تنفك عن العجلة وتنحرف عن خط السير- من قلق واستعجال وأنانية وطمع ورغبة ورهبة.. ونظل نشرد هنا وهناك والموكب ماض. ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم. ونصطدم هنا وهناك ونتحطم. والعجلة ماضية في سرعتها وبطريقتها إلى وجهتها. وتذهب قوانا وجهودنا كلها سدى. فأما حين تؤمن قلوبنا حقا، وتستسلم لله حقا، وتتصل بروح الوجود حقا. فإننا- حينئذ- نعرف دورنا على حقيقته وننسق بين [1] المصدر السابق.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3114