responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 3009
قال ابن اسحاق: إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش- وكان ذا سن فيهم- وقد حضر الموسم.
فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً. قالوا:
فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال:
لا والله ما هو بكاهن، لقد رأين الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنهون. قال:
ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر.
قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا:
فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق [1] ، وإن فرعه لجناة [2] . وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس- حين قدموا الموسم- لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره..
فذلك كان شأن الملأ من قريش في قولهم: ساحر كذاب. وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون. ويعرفون أنه لم يكن- صلّى الله عليه وسلّم- بساحر ولا كذاب! وعجبوا كذلك من دعوته إياهم إلى عبادة الله الواحد. وهي أصدق كلمة وأحقها بالاستماع:
«أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟» إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق» ..
ويصور التعبير القرآني مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطرية القريبة.. «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟» كأنه الأمر الذي لا يتصوره متصور! «إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» .. حتى البناء اللفظي «عُجابٌ» يوحي بشدة العجب وضخامته وتضخيمه! كما يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة. وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئا غير ظاهرها وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، مدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء! «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ» ..
فليس هو الدين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة. شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت وإدراك المناورات! وتنصرف هي إلى عادتها الموروثة، وآلهتها المعروفة، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة! فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها. فلتطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم! إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، والبحث وراء الحقيقة، وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة. ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير. وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل!

[1] العذق: الكثير الشعب والأطراف.
[2] جناة: أي فيه ثمر يجنى.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 3009
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست