نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2658
مستقلا لا يطغى عليه البحر. وحتى حين ينخفض سطح النهر عن سطح البحر لسبب من الأسباب فإن هذا الحاجز يظل قائما من طبيعة كثافة ماء البحر وماء النهر. إذ يخف ماء النهر ويثقل ماء البحر فيظل مجرى كل منهما مميزا لا يمتزجان ولا يبغي أحدهما على الآخر. وهذا من سنن الله في خلق هذا الكون، وتصميمه على هذا النحو الدقيق.
فمن فعل هذا كله؟ من؟ «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» ..
وما يملك أحد أن يدعي هذه الدعوى. ووحدة التصميم أمامه تجبره على الاعتراف بوحدة الخالق.. «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ..
ويذكر العلم هنا لأن هذه الحقيقة الكونية تحتاج إلى العلم لتملي الصنعة فيها والتنسيق، وتدبر السنة فيها والناموس. ولأن التركيز في السورة كلها على العلم (كما ذكرنا في تلخيص السورة في الجزء الماضي) .
ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم:
«أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» ..
فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم، وواقع أحوالهم.
فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى.. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء.
فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين.
والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل. حقائق خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الحدائق البهيجة، وجعل الأرض قرارا، والجبال رواسي، وإجراء الأنهار، والحاجزين البحرين. فالتجاء المضطر إلى الله، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق. هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء.
ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ» ..
فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا. ثم جعلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟
أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى. النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2658