نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2593
«قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» ..
والمشرق والمغرب مشهدان معروضان للأنظار كل يوم ولكن القلوب لا تنتبه إليهما لكثرة تكرارهما، وشدة ألفتهما. واللفظ يدل على الشروق والغروب. كما يدل على مكاني الشروق والغروب. وهذان الحدثان العظيمان لا يجرؤ فرعون ولا غيره من المتجبرين أن يدعي تصريفهما. فمن يصرفهما إذن ومن ينشئهما بهذا الاطراد الذي لا يتخلف مرة ولا يبطئ عن أجله المرسوم؟ إن هذا التوجيه يهز القلوب البليدة هزا، ويوقظ العقول الغافية إيقاظا. وموسى- عليه السّلام- يثير مشاعرهم، ويدعوهم إلى التدبر والتفكير: «إن كنتم تعقلون» ..
والطغيان لا يخشى شيئا كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة ولا ينقم على أحدكما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية. ومن ثم ترى فرعون يهيج على موسى ويثور، عند ما يمس بقوله هذا أوتار القلوب. فينهي الحوار معه بالتهديد الغليظ بالبطش الصريح، الذي يعتمد عليه الطغاة عند ما يسقط في أيديهم وتخذلهم البراهين:
«قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [1] » ..
هذه هي الحجة وهذا هو الدليل: التهديد بأن يسلكه في عداد المسجونين. فليس السجن عليه ببعيد. وما هو بالإجراء الجديد! وهذا هو دليل العجز، وعلامة الشعور بضعف الباطل أمام الحق الدافع. وتلك سمة الطغاة وطريقهم في القديم والجديد! غير أن التهديد لم يفقد موسى رباطة جأشه.. وكيف وهو رسول الله؟ والله معه ومع أخيه؟ فإذا هو يفتح الصفحة التي أراد فرعون أن يغلقها ويستريح. يفتحها بقول جديد، وبرهان جديد:
«قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» ..
وحتى لو جئتك ببرهان واضح على صدق رسالتي فإنك تجعلني من المسجونين؟ وفي هذا إخراج لفرعون أمام الملأ الذين استمعوا لما سبق من قول موسى ولو رفض الإصغاء إلى برهانه المبين لدل على خوفه من حجته، وهو يدعي أنه مجنون.. ومن ثم وجد نفسه مضطرا أن يطلب منه الدليل:
«قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ..
إن كنت من الصادقين في دعواك أو إن كنت من الصادقين في أن لديك شيئا مبينا. فهو ما يزال يشكك في موسى، خيفة أن تترك حجته في نفوس القوم شيئا.
هنا كشف موسى عن معجزتيه الماديتين وقد أخرهما حتى بلغ التحدي من فرعون أقصاه:
«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» ..
والتعبير يدل على أن العصا تحولت فعلا إلى ثعبان تدب فيه الحياة، وأن يده حين نزعها كانت بيضاء فعلا.
يدل على هذا بقوله: «فإذا هي» فلم يكن الأمر تخييلا، كما هو الحال في السحر الذي لا يغير طبائع الأشياء، إنما يخيل للحواس بغير الحقيقة.
ومعجزة الحياة التي تدب من حيث لا يعلم البشر، معجزة تقع في كل لحظة، ولكن الناس لا يلقون لها [1] يقال هنا ما قيل من قبل في قوله: «من المرسلين» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2593