نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2592
عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه. ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم:
«قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» ..
إنه- قبحه الله- يسأل: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث! فيجيبه موسى- عليه السّلام- بالصفة المشتملة على ربوبيته- تعالى- للكون المنظور كله وما فيه:
«قالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» ..
وهو جواب يكافىء ذلك التجاهل ويغطيه.. إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك- يا فرعون- ولا علمك. وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل. وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما. وكذلك كان جواب موسى- عليه السّلام- يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه.. فهو رب العالمين! .. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته [1] : «إن كنتم موقنين» فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق.
والتفت فرعون إلى من حوله، يعجبهم من هذا القول، أو لعله يصرفهم عن التأثر به، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب:
«قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟» ..
ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرفه! ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.
«قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ..
وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبهه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده.
لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين.
فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة. فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين! وإنها للقاصمة لفرعون. فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون. ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون:
«قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ..
إن رسولكم الذي أرسل إليكم.. يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها. ويتهم موسى- عليه السّلام- بالجنون، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم. وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين.
ولكن هذا الهتكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين: [1] لم يكن موسى يتكلم العربية. فقد كان يخاطب فرعون باللغة المصرية طبعا. ولكن القرآن يحكي قوله. [.....]
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2592