responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2591
قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .
ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
. ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» . فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيبا في قصره منذ أن التقطوا تابوته [1] . وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي [2] . وقيل: إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكما مستهزئا مستعجبا:
«قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ، وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ..
فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟
ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! وما بالك- وقد لبثت فينا من عمرك سنين- لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟! ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم: «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ» .. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها «وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» برب العالمين الذي تقول به اليوم، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين! وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه ردا قاتلا لا يملك موسى- عليه السّلام- معه جوابا، ولا يستطيع مقاومة.
وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبها من قصاص، يتهدده به من وراء الكلمات! ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه- انطلق- يجيب:
«قالَ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ! ..
فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ» على نفسي. فقسم الله لي الخير: ووهب لي الحكمة «وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ» فلست بدعا من الأمر، إنما أنا واحد من الرعيل «مِنَ الْمُرْسَلِينَ» [3] .
ثم يجيبه تهكما بتهكم. ولكن بالحق «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!

[1] سورة طه. الجزء السادس عشر من الظلال.
[2] سورة القصص.
[3] يلاحظ من ناحية التنسيق الفني في التعبير أن حرف الفاصلة في السورة هو الميم أو النون وقبلها مد. فقوله: من المرسلين. يتمشى موسيقيا مع الإيقاع السائد في السورة. بعكس ما لو قيل: وجعلني رسولا. ولكنه مع هذا يؤدي معنى مقصودا. وهو أنه واحد من كثيرين وأن الأمر ليس بفذ ولا عجيب. وهكذا يجتمع التناسق الفني والديني في التعبير.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 5  صفحه : 2591
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست