نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2433
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في هذا الدين بذلك الحديث، وأذاعوا به، وأثاروا حوله عجاجة من القول. والأمر في هذا كله لا يثبت للمناقشة، بل لا يصح أن يكون موضوعا للمناقشة.
وهناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون سبب نزول الآية شيئا كهذا، وأن يكون مدلوله حادثا مفردا وقع للرسول- صلى الله عليه وسلم- فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ» .. فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا، بوصفهم من البشر، مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل.
وهذا ما نحاول بيانه بعون الله. والله أعلم بمراده، إنما نحن نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري..
إن الرسل عند ما يكلفون حمل الرسالة إلى الناس، يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتبعوه.. ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة.
والرسل بشر محدودو الأجل. وهم يحسون هذا ويعلمونه. فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق.. يودون مثلا لو هادنوا الناس فيما يعز على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات فيسكتوا عنها مؤقتا لعل الناس أن يفيئوا إلى الهدى، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودون مثلا لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتم فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة! ويودون. ويودون. من مثل هذه الأماني والرغبات البشرية المتعلقة بنشر الدعوة وانتصارها.. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم.. هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق. فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيل أن يثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مثل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء..
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أو كلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس.. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة. كما حدث في بعض تصرفات الرسول- صلى الله عليه وسلم- وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بيانا في القرآن..
بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب:
«وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» .
وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ..
وفي حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار إليه الإمام ابن جرير رحمه الله.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2433