نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2296
هذه هي الفطرة التي فطر عليها الإنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض، ودوره في هذه الخلافة.
فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله. ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل وحب الكشف والاستطاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام.. وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض، ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة.. ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور وتصل شيئا فشيئا إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم، والتعلق بالمألوف، والمحافظة على العادة. ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع. ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود. إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع. وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال.
وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة.
فأما إذا غلب الركود والجمود. فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء.
هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض. فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق.. فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة. ولو بقيت النفس بفطرة الأرض، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد، ولا تتحول هي عنه، ولا يتحول هو عنها لا نقلب النعيم جحيما لهذه النفس بعد فترة من الزمان ولأصبحت الجنة سجنا لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة، ولو إلى الجحيم، ليرضوا نزعة التغيير والتبديل! ولكن بارئ هذه النفس- وهو أعلم بها- يحول رغباتها، فلا تعود تبغي التحول عن الجنة، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد! وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
«قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» ..
والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر. والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير! فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد! وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع.
والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج.. ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود، فكيف بغير المحدود؟
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2296