نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2297
لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال.
والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعا غزيرا. وهو- على سعته وغزارته- محدود.
وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله.
فضلا على محاكاته.
ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي، فيحسبون أنهم علموا كل شيء، أو أنهم في الطريق! ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم! إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم الله ضئيل قليل، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود.
فليعلم الإنسان ما يعلم وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف.. ولكن ليطامن من غروره العلمي، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادا في يده. وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد..
وفي ظل هذا المشهد الذي يتضاءل فيه علم الإنسان ينطلق الإيقاع الثالث والأخير في السورة، فيرسم أعلى أفق للبشرية- وهو أفق الرسالة الكاملة الشاملة. فإذا هو قريب محدود بالقياس إلى الأفق الأعلى الذي تتقاصر دونه الأبصار، وتنحسر دونه الأنظار:
«قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» ..
إنه أفق الألوهية الأسمى.. فأين هنا آفاق النبوة، وهي- على كل حال- آفاق بشرية؟
«قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ... » .. بشر يتلقى من ذلك الأفق الأسمى. بشر يستمد من ذلك المعين الذي لا ينضب. بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه. بشر يتعلم فيعلم فيعلم.. فمن كان يتطلع إلى القرب من ذلك الجوار الأسنى، فلينتفع بما يتعلم من الرسول الذي يتلقى، وليأخذ بالوسيلة التي لا وسيلة سواها:
«فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» ..
هذا هو جواز المرور إلى ذلك اللقاء الأثير.
وهكذا تختم السورة- التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد- بتلك الإيقاعات المتدرجة في العمق والشمول، حتى تصل إلى نهايتها فيكون هذا الإيقاع الشامل العميق، الذي ترتكز عليه سائر الأنغام في لحن العقيدة الكبير..
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2297