responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2279
بهذا الأدب اللائق بنبي، يستفهم ولا يجزم، ويطلب العلم الراشد من العبد الصالح العالم.
ولكن علم الرجل ليس هو العلم البشري الواضح الأسباب القريب النتائج، إنما هو جانب من العلم اللدني بالغيب أطلعه الله عليه بالقدر الذي أراده، للحكمة التي أرادها. ومن ثم فلا طاقة لموسى بالصبر على الرجل وتصرفاته ولو كان نبيا رسولا. لأن هذه التصرفات حسب ظاهرها قد تصطدم بالمنطق العقلي، وبالأحكام الظاهرة، ولا بد من إدراك ما وراءها من الحكمة المغيبة وإلا بقيت عجيبة تثير الاستنكار. لذلك يخشى العبد الصالح الذي أوتي العلم اللدني على موسى ألا يصبر على صحبته وتصرفاته:
«قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟» .
ويعزم موسى على الصبر والطاعة، ويستعين الله، ويقدم مشيئته:
«قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» ..
فيزيد الرجل توكيدا وبيانا، ويذكر له شرط صحبته قبل بدء الرحلة، وهو أن يصبر فلا يسأل ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له عن سرها:
«قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .
ويرضى موسى.. وإذا نحن أمام المشهد الأول لهما:
«فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» ..
سفينة تحملهما وتحمل معهما ركابا، وهم في وسط اللجة ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة! إن ظاهر الأمر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم إلى هذا الشر فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر؟
لقد نسي موسى ما قاله هو وما قاله صاحبه، أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي! والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد، ولكنه عند ما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعا غير التصور النظري. فالتجربة العملية ذات طعم آخر غير التصور المجرد. وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل إلى أنه لا يستطيع صبرا على ما لم يحط به خبرا، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط. ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا الرجل فيندفع مستنكرا.
نعم إن طبيعة موسى طبيعة انفعالية اندفاعية، كما يظهر من تصرفاته في كل أدوار حياته. منذ أن وكز الرجل المصري الذي رآه يقتتل مع الإسرائيلي فقتله في اندفاعة من اندفاعاته. ثم أناب إلى ربه مستغفرا معتذرا حتى إذا كان اليوم الثاني ورأى الإسرائيلي يقتتل مع مصري آخر، هم بالآخر مرة أخرى [1] ! نعم إن طبيعة موسى هي هذه الطبيعة. ومن ثم لم يصبر على فعلة الرجل ولم يستطع الوفاء بوعده الذي قطعه أمام غرابتها. ولكن الطبيعة البشرية كلها تلتقي في أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما غير التصور النظري.
ولا تدرك الأمور حق إدراكها إلا إذا ذاقتها وجربتها.
ومن هنا اندفع موسى مستنكرا:
«قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» .

[1] يراجع فصل: «القصة في القرآن» في كتاب: «التصوير الفني في القرآن» . «دار الشروق» . [.....]
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2279
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست