نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2280
وفي صبر ولطف يذكره العبد الصالح بما كان قد قاله منذ البداية:
«قالَ: أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟» .
ويعتذر موسى بنسيانه، ويطلب إلى الرجل أن يقبل عذره ولا يرهقه بالمراجعة والتذكير:
«قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» ..
ويقبل الرجل اعتذاره، فنجدنا أمام المشهد الثاني:
«فَانْطَلَقا. حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ..» .
وإذا كانت الأولى خرق سفينة واحتمال غرق من فيها فهذه قتل نفس. قتل عمد لا مجرد احتمال. وهي فظيعة كبيرة لم يستطع موسى أن يصبر عليها على الرغم من تذكره لوعده:
«قالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» .
فليس ناسيا في هذه المرة ولا غافلا ولكنه قاصد. قاصد أن ينكر هذا النكر الذي لا يصبر على وقوعه ولا يتأول له أسبابا والغلام في نظره بريء. لم يرتكب ما يوجب القتل، بل لم يبلغ الحلم حتى يكون مؤاخذا على ما يصدر منه.
ومرة أخرى يرده العبد الصالح إلى شرطه الذي شرط ووعده الذي وعد، ويذكره بما قال له أول مرة.
والتجربة تصدقه بعد التجربة:
«قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ..
وفي هذه المرة يعين أنه قال له: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟» لك أنت على التعيين والتحديد. فلم تقتنع وطلبت الصحبة وقبلت الشرط.
ويعود موسى إلى نفسه، ويجد أنه خالف عن وعده مرتين، ونسي ما تعهد به بعد التذكير والتفكير. فيندفع ويقطع على نفسه الطريق، ويجعلها آخر فرصة أمامه:
«قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .
وينطلق السياق فإذا نحن أمام المشهد الثالث:
«فَانْطَلَقا. حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ» ..
إنهما جائعان، وهما في قرية أهلها بخلاء، لا يطعمون جائعا، ولا يستضيفون ضيفا. ثم يجد أن جدارا مائلا يهم أن ينقض. والتعبير يخلع على الجدار حياة وإرادة كالأحياء فيقول: «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» فإذا الرجل الغريب يشغل نفسه بإقامة الجدار دون مقابل!!! وهنا يشعر موسى بالتناقض في الموقف. ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جدارا يهم بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان، وقد أبوا أن يستضيفوهما؟ أفلا أقل من أن يصب عليه أجرا يأكلان منه؟
«قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» ! وكانت هي الفاصلة. فلم يعد لموسى من عذر، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2280