نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2213
لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها. وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها.
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى- التوراة- وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر- نوح- العبد الشكور، وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة، ولم يحمل معه إلا المؤمنون:
«وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» ..
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل. وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم.
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب: «هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» فلا يعتمدوا إلا على الله وحده، ولا يتجهوا إلا إلى الله وحده. فهذا هو الهدى، وهذا هو الإيمان. فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلا.
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض.
خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين، مع نوح العبد الشكور، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق.
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها. وقد وصف بها محمدا- صلى الله عليه وسلم- من قبل. على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها.
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض. وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم. وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض، تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف:
«وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» ..
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم. فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد «قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن. فما سيكون- بالقياس إلى علم الله- كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد، ولم يكشف عنه الستار.
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون. وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:
«فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا» .
فهذه هي الأولى: يعلون في الأرض المقدسة، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان، فيفسدون فيها. فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد، وأولي بطش وقوة، يستبيحون الديار، ويروحون فيها ويغدون باستهتار، ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب «وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا» لا يخلف ولا يكذب.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2213