نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2212
السياق ينص على الليل «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» للتظليل والتصوير- على طريقة القرآن الكريم- فيلقي ظل الليل الساكن، ويخيم جوه الساجي على النفس، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها.
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد خاتم النبيين- صلى الله عليه وسلم- وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا. وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.
ووصف المسجد الأقصى بأنه «الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» وصف يرسم البركة حافة بالمسجد، فائضة عليه. وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل: باركناه. أو باركنا فيه. وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب.
والإسراء آية صاحبتها آيات: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول- صلى الله عليه وسلم- أيا كانت صورتها وكيفيتها.. آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة.. «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» .. يسمع ويرى كل ما لطف ودق، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار.
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» إلى صيغة التقرير من الله: «لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا» إلى صيغة الوصف لله: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس. فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه. وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا.
والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية. وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة.
هذا الإسراء آية من آيات الله. وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر. والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة.
والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجهم منها. فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية:
«وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» ..
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة. وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها ودالت دولتهم بها. وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها، وفاقا
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2212