نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2211
رؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة.. المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول- صلى الله عليه وسلم- عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة..
والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعة شيئا. فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة، حسب ما اعتاده وما رآه. والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله.
أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى- على غير قياس أو عادة لبقية البشر- وهذه التجلية لمكان بعيد، أو عالم بعيد والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه. وقد صدق أبوبكر- رضي الله عنه- وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: إني لأصدقه بأبعد من ذلك. أصدقه بخبر السماء! ومما يلاحظ- بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها- أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يسمع لتخوف أم هانىء- رضي الله عنها- من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة. فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به، والحق الذي وقع له، جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه. وقد ارتد بعضهم فعلا، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك. ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن الجهر بالحق الذي آمن به.. وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس، ولا يتملقون به القوم، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال.
كذلك يلاحظ أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق- وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل- ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها. فلم يكن جهر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته. إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة:
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل:
«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» ..
تبدأ السورة بتسبيح الله، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء.
وتذكر صفة العبودية: «أَسْرى بِعَبْدِهِ، لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر وذلك كي لا تنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية، بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام، بسبب ما لابس مولده ووفاته، وبسبب الآيات التي أعطيت له، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية.. وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة، من قريب أو من بعيد.
والإسراء من السرى: السير ليلا. فكلمة «أَسْرى» تحمل معها زمانها. ولا تحتاج إلى ذكره. ولكن
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2211