الوجه الثالث:
إن العظماء من أهل الدنيا قد يكونون غير مريدين نفع رعيتهم والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركهم من الخارج، فإذا خاطبهم من ينصحهم ويعظهم أو من يدلهم ممن يرجونهم ويخافونهم تحركت إرادتهم وهمتهم في قضاء حوائج رعيتهم. فلحاجتهم إليهم يقبلون شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقض طاعتهم، ولذا يقبلون شفاعتهم على الكره والرضي.
أما الباري سبحانه وتعالى فهو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو ـ سبحانه ـ إذا أراد إجراء نفع العباد بعضهم على يد بعض جعل هذا يحسن إلى هذا وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة"1. ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه كما قدمنا ذلك بخلاف العظماء من أهل الدنيا فإنهم محتاجون والشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم على ملكهم ولذا فإنهم يشفعون عند ملوكهم بغير إذنهم، والملوك يقبلون شفاعتهم تارة لحاجتهم إليهم وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى أنهم يقبلون شفاعة أولادهم وأزواجهم، بل إن أحدهم لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، بل يقبل حتى شفاعة مملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره. فشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا القبيل فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة، والله ـ جل وعلا ـ لا يرجو أحداً، ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد هو الغني ـ سبحانه ـ عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، والمشركون قديماً وحديثاً إنما يتخذون الشفعاء، والأولياء على غرار ما يعهدونه عند المخلوق"2 وفيما ذكرنا من الفروق كفاية بين الشفاعة الشركية، والشفاعة الشرعية لمن أراد الله تنوير بصيرته، فابتعد عما يدين به المشركون والقبوريون
1- الواسطة بين الحق والخلق لابن تيمية ص17 ـ 19 بتصرف، وانظر إغاثة اللهفان 1/223، وانظر الهدية السنية لابن سحمان ص51.
2- إغاثة اللهفان 1/223.