الشعر، وهو لا يعرف ما مقداره، ولا يحيط بأقله فضلاً عن أكثره، وقد قالوا إن ابن الأعرابي أملى وحده من الشعر أحمالاً، فأين هذه الأحمال اليوم حتى يقابل ما فيها بعضه يبعض، ومن الذي يستطيع في عصرنا أن يقول في الشعر: هذا يشبه شعر الجاهلية وهذا لا يشبهه، والتوليد في هذا بيِّن، والصنعة في ذلك ظاهرة، وهذا بقول فلان أشبهُ وهذا ليس من نسج فلان ولا من طبقته، وذلك منحول رويناه في شعر فلان. . . الخ الخ؟
وقد وضع ابن سلام كتاباً في طبقات فحول شعراء الجاهليين لا يُعرف إلا
اسمه، أفتحسب راوية مثله يضع في أوائل القرن الثالث كتاباً في أسماء هؤلاء
" الفحول " وليس بين يديه من شعرهم الكثير الصحيح قد غُربل ونخل ونُفي منه الموضوع والمنحول وما تقولته العشائر بأهوائها وما دسه الرواة بسبب من
أسبابهم؟
نحن لا ندفع أن يكون فيما يُعزَى إلى الجاهلية شعر محمول على أهلها
حملاً، وشعر قد نحلوهم إياه من كلام الشعراء المغمورين، وقد بينا ذلك في
"تاريخ آداب العرب" في باب الرواية والرواة من الجزء الأول، وهو الباب الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه في الشعر الجاهلي.
ولكن بيننا وبين الجاهلية ثم من نقلوا عنها أزماناً متناسخة كادت توفي
خمسة عشر قرناً، وقد باد أكثر الكتب وذهبت فيها أقوال الرواة وعِلم العلماء مما حققوه ونصوا علبه، وما تسامحوا فيه وتوسعوا به، فلا يجوز لكائن من كان بين قطبي الأرض أن يثبت أو ينكر ويزيد أو ينقص إلا بنص عن المتقدمين؛ لأن هذا العلم لا يمكن أن يستقيم على اتباع الظن ولا أن يصح على الشك، فإن محل الشك والتخمين والحدس والاستنتاج إنما يجيء بعد أن تجتمع المادة من أطرافها بحيث لا يشد منها إلا القليل الذي يفرض فيه لقلته أنه لا ينقض حكماً ولا يبطل رأياً، للاستغناء بالنصوص الأخرى المتوافرة التي تتحقق بها غلبة الظن إن لم يأت منها اليقين، والأمر في يد أستاذ الجامعة المبتلى بالشك.
على النقيض من ذلك فلا هو يستطيع أن يرد ما ذهب من الكتب فيستوعبها، ولا هو يمكنه أن يطلع على كل ما هو فبعثر في زوايا الدنيا من الكتب التي لم تذهب، ولا هو اطلع على كل ما تناله أيدي الأدباء: ثلاث درجات يَسفل بعضها عن بعض، فالعجب الذي ليس مثله عجب أن يكون الأستاذ ناقصاً هذا النقص كله ثم يزعم أنه يدعو إلى الطريقة العلمية في تاريخ الأدب، وأنه يمحص ويحقق، ويثبت وينفي، ويوقن ويشك، وهذا هو المضحك من أمره.
فإن أخص شروط