الطريقة العلمية في درس التاريخ وكتابته أن يستوعب المؤرخ كل ما قيل وكتب في موضعه، مما يتعلق بحادث أو شخص أو موضوع، لا يفوته من ذلك شيء، فإذا هو أتى على المادة ووضع يده منها حيث أراد وأمِنَ أن يكون ندَّ عنه أمر ذو بال جاء الشرط الثاني لهذه الطريقة ووجب حينئذ أن ينتفي من أهوائه ونزعاته، ويتجرد من شخصه الإنساني، ليصبح في عمله شخصاً، كما يتجرد القاضي ليكون في قضائه شخصاً قانونياً ليس غير! بيدَ أن طه تجرد قبل أن يلبس. . .
وهذا نوع من الهزل إن احتمل من كاتب في صحيفة لا يحتمل من مدرس في
جامعة!
ومع أن الطريقة العلمية قائمة على استقراء المادة والإحاطة بها من جميع
جهاتها، فهي لا تخرج التاريخ نفسه كما هو في الواقع، وإنما تجيء برأي فيه
يكون معياره دائماً ذكاء صاحبه وعقله وخياله، ولهذا اشترطوا في صاحب تلك الطريقة أن يكون ممن رُزقوا البراعة كل البراعة في إصابة الحدس وقوة الخاطر وسمو الخيال، وإلا خرج عمله بلا معنى، أو بمعنى لا قيمة له، أو بقيمة ضعيفة تنزل من التاريخ منزلة الهيكل العظمي من الجسم الحي.
وضع الإمام المرزباني كتاباً غير الكتاب الذي أومأنا إليه آنفاً.
قال ابن النديم إنه أكثر من خمسة آلاف ورقة أتى فيه على أخبار (الشعراء المشهورين) من الجاهلية، وبداً بامرئ القيس وطبقته، ثم المخضرمين، ثم الإسلاميين إلى أول الدولة العباسية، فهذه أخبار شعراء مائتي سنة من التاريخ، بل المشهورين منهم، وقد كتبت في خمسة آلاف ورقة، أي عشرة آلاف صفحة، لم ينته إلينا منها صفحة واحدة، فكيف مع ضياعها وضياع كثير من أمثال هذا الكتاب الجامع الممتع يُقبل عقلاً من مؤرخ علمي يجلس في كرسي التحقيق أن يقرر مثل هذا الهُراء الذي جاءنا به الدكتور طه حسين في إنكار الشعر وإثباته، على حين أنه مع هذا النقص الفاضح تنقصه كذلك ملكة الشعر فما هو بشاعر يدرك
بالحس كما أدرك مثل ذي الرمة حين سئل عن شعر أنشده حماد الرواية في مدح بلال بن أبي بردة فقال: إنه جيد وليس له، فلما عزم بلال على حماد ليخبرنَّه
قال: إن الشعر قديم ولا يرويه غيري وقد انتحلته.
ولجرير والفرزدق وغيرهما من الشعراء أَخبار كثيرة من مثل هذا، يقرأون بنفوسهم كما يقرأون بأعينهم، فلا يحسن أن يقول المؤرخ في الشعر إلا إذا كان شاعراً يوثق بملكته، فإن الحس والملكة من أقوى أسباب الرأي في مثل ذلك.
ومع نقص النقص في أستاذ الجامعة فهو لا يحسن نقد الشعر، لأن النقد