يقول: كل واحد منهما لحال، فالمرأة لحال الأمن، والفرس لحال الخوف، فكما يكرم أحدهما ليومه فكذلك الآخر.
خبره مع فاتك
كان أبو شجاع فاتك الكبير المعروف بالمجنون رومياً، أخذ صغيراً، وأخ وأخت له من بلاد الروم، قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلم الخط بفلسطين، وهو ممن أخذه ابن طغج من سيده وهو بالرملة كرهاً بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، فكان معهم حراً في عدة المماليك، كريم النفس حر الطبع، بعيد الهمة.
وكان في أيام كافور مقيماً بالفيوم من أعمال مصر وهو بلد كثير الأمراض، لا يصح به جسم، وإنما أقام به أنفةً من الأسود وحياءً من الناس أن يركب معه، وكان الأسود يخافه، ويكرمه، فزعاً، وفي نفسه ما في نفسه فاستحكمت العلة في بدن فاتك، وأحوجته إلى دخول مصر فدخلها، ولم يمكن أبا الطيب أن يعوده، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا في الصحراء، فحمل إلى منزله للوقت هدية قيمتها ألف دينار ذهباً، ثم أتبعها هدايا بعدها.
فقال أبو الطيب يمدحه في جمادى الآخر. سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة.
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال
يقول لنفسه: ليس عندك خيل ولا غيرها من الأموال تهديها إلى فاتك، مكافأة على إحسانه، فأنت قادر على مدحه، فساعده بالقول الجميل، إن لم يساعدك الحال على الأجر الجزيل. وهذا كقول الحطيئة.
إلاّ يكن مالٌ يثاب فإنّه ... سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل
ومثله للمهلبي:
إن يعجز الدّهر كفّى عن جزائكم ... فإنّني بالهوى والشّكر مجتهد
وأجز الأمير الّذي نعماه فاجئةٌ ... بغير قولٍ، ونعمى النّاس أقوال
فاجئة: اسم فاعل من الفجاءة.
يقول: كافئ الأمير الذي يفاجئ بإنعامه من غير وعد، وغيره يقول ولا يفعل: يعرض بكافور.
فرّبما جزت الإحسان موليه ... خريدةٌ من عذارى الحيّ مكسال
الخريدة: الجارية الناعمة، وقيل الكثيرة الحياء. والمكسال من النساء: الفاترة القليلة التصرف.
يقول: إذا كانت النساء مع ضعفهن، وعادتهن كفران النعم، ربما جازين من أحسن إليهن، فأنت أقدر على شكر من أحسن إليك.
وخص من النساء الخريدة المكسال؛ لضعفها وفتورها.
وإن تكن محكمات الشّكل تمنعني ... ظهور جريٍ فلي فيهنّ تصهال
الشكل: جمع الشكال.
يقول: إن كان ضيق حالي يمنعني من مكافأتك فعلا، فإني أكافئك قولاً يظهر ما في نفسي، كصهيل الجواد يظهر ما في نفسه من الشوق إلى الجري. شبه نفسه بالجواد المشكول، إذا لم يقدر على الجري صهل شوقاً إليه.
وقيل: معناه إذا لم أقدر على المكاشفة بنصرتك على كافور، فإني أمدحك، وإني في ذلك كالجواد المشكول عن الجري فإنه يصهل شوقاً إليه.
وما شكرت لأنّ المال فرّحني ... سيّان عندي إكثارٌ وإقلال
الإكثار: كثرة المال. والإقلال: قلته، وأراد الغنى والفقر.
يقول: لم أشكر؛ لفرحي بالمال الذي أسديته إلي، وسواء عندي الغنى والفقر.
لكن رأيت قبيحاً أن يجاد لنا ... وأنّنا بقضاء الحقّ بخّال
بخال: جمع باخل.
يقول: إنما شكرت لك لأني رأيت بخلي بقضاء الحق مع جودك علي قبيحاً.
قال ابن جني: لما وصلت في القراءة إلى هذا الموضع، قال المتنبي: هذا رجل حمل إلي ألف دينار في وقت واحد.
قال: وما رأيته أشكر لأحد منه لفاتك، وكان يترحم عليه كثيراً.
فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيثٌ بغير سباخ الأرض هطّال
يقول: نمت صنيعته عندي، وزادت كالأرض الطيبة إذا صابها المطر الكثير ولم يذهب باطلا، كالمطر في الأرض السبخة.
غيثٌ يبيّن للنّظّار موقعه ... أنّ الغيوث بما تأتيه جهّال
موقعه: فاعل يبين، ويجوز فيه النصب، فيكون فاعله ضمير الغيث.
يقول: إن فاتكاً غيث يولي بإنعامه من هو أهله، فإذا نظر الناس علموا أن الغيوث جاهلة بما تفعله: من سقى المكان السبخ والطيب. فموقع نعمه يبين هذا المعنى.
لا يدرك المجد إلا سيّدٌ فطنٌ ... لما يشقّ على السّادات فعّال
يقول: لا يصل إلى المجد إلا كل فطن يراعي أحوال القضاء، ويتحمل المشاق التي تشق على سائر السادات.
لا وارثٌ جهلت يمناه ما وهبت ... ولا كسوبٌ بغير السّيف سآل