واجتماعي، لا يقلان في آثارهما عنه، فإن مصر لم تكن في اعتبار الروم غير مزرعة للغلال. وبينما كانوا يستنزفون خيراتها كان أبناؤها يعانون الكثير من الفقر والمرض والجهل، واشتعال الفتن والحرمان من حقوقهم ومن تولى المناصب الرفيعة، ومن فرض الضرائب الباهظة المتعددة على الأشخاص والأشياء، وعلى المارة والموتى وصناع السفن والعاهرات وزوجات الجنود، وتذاكر المرور وختمها، وأثاثات المنازل وشراعات السفن وصواريها، فضلًا عما كان مفروضًا على الأهالي من وجوب إيواء الموظفين والجند، وتقديم ما يحتاجونه من وسائل النقل والغذاء[1].
ولا شك في أن هذه العوامل كلها لاقت اهتمامًا من الخليفة، الذي استمع إلى عمرو وإغرائه بفتح مصر، واقتنع بوجاهة رأيه، وكفالة كل هذه العوامل لإنجاح فتح المسلمين لمصر فعقد له لواءها. والروايات التاريخية تختلف اختلافًا بعيدًا حول إذن الخليفة لعمرو بالفتح، بين أن يكون عمرو قد حبذ الفتح إلى الخليفة، أو أن يكون الخليفة هو الذي أمر به عمرًا، وبين أن يكون عمرو قد استأذن في الفتح قبل تقدمه أو بعده[2].
إلا أن هذه الروايات المختلفة جميعًا تتفق على تلك الإحالة التي تكاد أن تكون استخارة، تمثلت في الكتاب الذي أرسله الخليفة إلى عمرو. والظاهر أن متابعة هذه الأقوال لا يتفق وتلك البواعث الجادة الملحة التي لا يخالطها ريب أو تردد في فتح مصر، استكمالًا لفتح الشام والقضاء على الدولة البيزنطية قضاء مبرمًا.
والذي يمكننا أن نتقبله في ذلك هو أن الخليفة أذن لعمرو في فتح مصر، وأنه عقد له على أربعة آلاف رجل، ولكنه عاد فتخوف وندم بعد أن أبان له عثمان حرج موقف عمرو لقلة من معه. فكتب إلى عمرو كتابه الشهير، يعده بإمداده إن كان قد دخل أرض مصر فعلًا. وعلى هذا النحو تستقيم مدافعة عمرو للرسول الذي حمل كتاب الخليفة إلى أن يكون قد دخل بالفعل في أرض مصر. وقد أدرك الكتاب عمرًا على قرية بين العريش ورفح داخل حدود مصر حيث فض الكتاب، ثم سار على بركة الله وبعونه[3]. فبلغ [1] ملن ص115-125. [2] المقريزي ج1، ص228، ابن عبد الحكم ص51. [3] ابن عبد الحكم ص51، 52.