ويعتقد اليعاقبة من أهل البلاد، بأنه قد صار للمسيح طبيعة واحدة بعد تجسده؛ نتيجة امتزاج الطبيعة الإلهية البشرية، وأن هذا الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء، حتى يصيرا شيئًا واحدًا، بينما يرى الملكانيون من الروم الحاكمين أن الابن مولود من الأب قبل كل الدهور، غير مخلوق، وهو جوهره ونوره، وأن الابن اتحد بالإنسان المأخوذ من مريم فصارا واحدًا هو المسيح، وهذا الاتحاد كاتحاد النار في الصفيحة المحماة.
وبرغم أن المذهبين ينتهيان إلى ما يشبه النهاية الواحدة المتفقة، فهما يختلفان في التفاصيل، وقد انعقد مؤتمر خلقدونيا في مطلع النصف الثاني من القرن الخامس، فأقر المذهب الملكاني وأوصى بعزل بطريق الإسكندرية ومؤسس المذهب اليعقوبي، وبقتل كل من يقول بمذهبه، واستقبل هذا القرار بالثورة، وازداد عسف الحكام بالشعب، فأباحوا المدن وأبطلوا الأعياد وأغلقوا الحمامات، وزجوا بزعماء الثورة في الهياكل وأحرقوها بهم، وقطعوا إعانة الغلال، واستمر الاضطهاد عنيفًا، ووقعت المعارك الدموية وأحرقت الإسكندرية وقتل مائتا ألف في كنيستها بأمر البطريق أبو ليناريس، الذي فرضه عليهم يوستنيانوس في مطلع القرن السادس، وجعل منه حاكمًا للإسكندرية تئول إليه جميع أملاك الكنيسة[1].
وأثمرت هذه السياسة الدموية المتعسفة في مصر عداء دائمًا وبغضًا للروم لا حد له. وأتيح للقبط في مطلع القرن السابع أن ينعتقوا من جحيم الروم لمدة يسيرة إبان غزو الفرس لمصر، ولكن هرقل أعادهم إلى ما كانوا فيه من التعذيب والاضطهاد، وازداد الحال سوءًا في محاولته فرض مذهب ابتكره له سرجيوس؛ للتوفيق بين الملكانيين واليعاقبة، وليقضي به على الخلافات الناجمة عن التعرض لكنه المسيح وصفته وطبيعته.
ويقضي هذا المذهب بأن للمسيح إرادة واحدة وقضاء واحدًا، وكان استقبال القبط لهذا المذهب سيئًا للغاية، وحاربوه حربًا أشد من حربهم للوثنية، وتجددت الفظائع واضطر المصريون إلى الفرار إلى الصحراء، وشاع الاتجاه إلى الرهبنة كما فعل بنيامين البطريق، الذي أعوز بعد فراره إلى القبط بألا يقاوموا العرب، فكان أن لم يجد عمرو في طريقه إلى الفرما إلى بابليون مقاومة عنيفة، وقد صاحب الاضطهاد الديني اضطهاد سياسي [1] ملن، تاريخ مصر تحت حكم الرومان ص100، 101.