وقد أصاب عمرو في إشارته إلى هذه السياسة الظالمة التي اتبعها الروم ولم يكن إلحاحه وليد حبه للمغامرة التي يظهر فيها مواهبه في مباراة خالد بن الوليد، كما يزعم بعض المؤرخين[1]، فإن هدفًا متناهيًا في السمو كهذا لا يمكن أن يعزى إلى سبب شخصي؛ إذ لا يعقل أن يقدم خليفة حذر كابن الخطاب على فتح مصر دون أن تكون هناك دوافع لها خطرها.
وكل ما هنالك أن عمرًا قد أدرك مدى الخطر الذي يمكن أن يسببه بقاء مصر في حوزة الروم، بعدما رأى إبان فتح فلسطين وبيت المقدس، ولأنه أحسن بما يدور في مصر ولمس بنفسه أخبارها، وهجرة الألوف من أبنائها إلى الشام فرارًا من الاضطهاد الديني والمذهبي. وعرف عن تعذيب اليعاقبة الشيء الكثير كما عرف ما يرزح تحته المصريون من أعباء الفتن والضرائب والمكوس الباهظة.
فقد استهدف المصريون منذ اعتناقهم المسيحية لعدوان الروم، فتوالت عليهم النقم من قياصرتهم قتلًا وتعذيبًا وتشريدًا، حتى جاء القيصر دقلديانوس فأغلق كنائسهم وأسرف في قتلهم؛ بغية استئصال شأفتهم أو ردهم إلى الوثنية، وترتب على هذا قيام الثورات في الإسكندرية، مما اضطر القيصر إلى إخمادها بنفسه، بعد أن حاصر المدينة ودمر أبنيتها، وراحت النظم الإدارية بعد هذا ترمي إلى التشدد في تقديس الإمبراطور وإكباره؛ بغية تحويله من رئيس ديني إلى ما يشبه الإله الذي يُعبد وتقدم إليه القرابين.
وقد أثارت هذه السياسة سخط المصريين. فلقي الروم في سبيل تأليه إمبراطورهم مقاومة عنيفة وعنادًا شموسًا، حتى أصبح عصر دقلديانوس مما يؤرخ به في مصر؛ إذ اعتبر اعتلاؤه العرش مبدأ تاريخ الشهداء لكثرة القتلى والمعذبين فيه[2].
وعندما اعتلى قسطنطين العرش اعتنق المسيحية، ولكن القبط خلصوا من اضطهاد الحكومة ليقعوا في اختلافات مذهبية حول كنه العلاقة التي يمكن أن تكون بين الله وعيسى. ولم يكد ثيودوسيوس يقبض على أزمة الأمور حتى قرر تنصير الإمبراطورية في نهاية القرن الرابع، ولكن الخلافات المذهبية لم تتوقف، وإنما تبلورت في مذهبين متقابلين: هما اليعقوبية والملكانية. [1] فيليب حتى ص215. [2] ملن، تاريخ مصر تحت حكم الرومان ص87.