وأدرك عمرو دقة الموقف، وخشي توزع جنوده بين هذه الأماكن، فخاطب الخليفة في ذلك. فأشار عمر بأن يتوجه معاوية إلى قيسارية ليفتحها فلا يجيء إلى أرطبون أمداد عن طريقها. وسار معاوية إليها فحصرها، وزاحف أهلها وردهم إلى حصونهم كلما خرجوا له. وطال بهم الأمر حتى استماتوا في قتاله ذات يوم فقضى عليهم، حتى ليقال: إنه قتل منهم ثمانين ألفًا. وبسقوط قيسارية أمن المسلمون جانبها، وامتنع كل مدد يجيء إلى الروم عن طريقها[1].
ولم يكتفِ عمرو بهذا، فقد رأى أرطبون يتقدم بقواته إلى أجنادين، فوجه علقمة بن حكيم ومسروقًا العكي إلى إيلياء حتى يشغل الروم عنه. ووجه أبا أيوب المالكي إلى الرملة لنفس الغرض. وسار عمرو في جلة الجيش إلى أجنادين، فإذا الروم قد تحصنوا وخندقوا. واحتال عمرو فتنكر حتى دخل على أرطبون كأنه رسول، وتأمل حصونه وعرف ما أراد. واحتال حتى خرج بعد أن كاد أمره يكتشف، ولم يبقَ أمام عمرو إلا أن ينشب القتال بعد أن عرف مأخذه ومآتيه. وبعد أن أعد له عدته التقى الجيشان بأجنادين، كما التقى جيش الروم والمسلمين بالواقوصة، وكذلك كان القتال شديدًا، وترجع النصر زمنًا بينهما. وكان أهل فلسطين من اليهود والنصارى يقفون من حكامهم ومن غزاتهم موقف المتفرج، لا تحركهم حماسة للروم ولا غضب على المسلمين. وساعد هذا على أن يكون المسلمون أكثر ثباتًا وصبرًا، فلما آذنت الشمس بالمغيب رأى أرطبون صفوفه تضطرب فانسحب في الناس متقهقرًا إلى بيت المقدس، فأفسح علقمة ومسروق طريقًا، فدخل المدينة بمن بقي من جنده معتمدًا على مناعة حصونها. وعسكرا بقواتهما إلى جانب قوات أبي أيوب بأجنادين. بينما أقام عمرو ينظر في مهاجمته أرطبون بيت المقدس. ورأى عمرو أن يحيطوا به فيقطعوا خط الرجعة عليه من ناحية البحر، ففتحوا رفح وغزة وسبسطية ونابلس واللد وعمواس وبيت جبرين ويافا[2].
وكاتب أرطبون عمرًا بأنه لن يفتح شيئًا بعد أجنادين، فعليه أن يرجع ولا يغتر. فرد بأنه صاحب فتح هذه البلاد، وطلب إليه أن يتدبر أمره قبل أن يدهمه، ولكنه كان يشعر [1] هيكل، الفاروق ص247. [2] الطبري 1/ 5/ 2405.