أنه بحاجة إلى مدد، فقد أنهكت وقعة أجنادين المسلمين، فكاتب الخليفة أنه يعاني حربًا كئودًا صدومًا، وبلادًا ادخرت له، وطلب رأيه. وظل محاصرًا للمدينة والمقاومة تشتد، حتى ذاق المسلمون من قسوة المنجنيقات وشدة البرد الكثير. وكان جليًّا أن استماتة المدينة في الدفاع سببها الدين. فلما أيقنوا بانقطاع المدد عنهم، وبقسوة المنجنيقات على المسلمين خافوا على كنيستهم وقبلتهم ألا يصالحهم المسلمون على ما صالحوا عليه المدن الأخرى؛ ولهذا فقد اشترطوا أن يتولى عقد الصلح خليفة المسلمين بنفسه، وربما ليتركوا لجنودهم فرصة ينسحبون فيها إلى مصر. وكتب لهم عمر كتابًا أمنهم فيه على أنفسهم وبيعهم وصلبانهم[1].
وانتهز عمر وجوده بالشام فنظم إدارته، وعدل قيادته وقسم إقليم الشام مقاطعات تعرف بالأجناد، ثم قفل راجعًا إلى المدينة.
ولم يشأ الروم بعد كل هذا أن يتركوا المسلمين ينعمون بالاستقرار في بلاد الشام. وداعب الأمل هرقل في أن يستعيد الشام في محاولة نهائية، وتصادف أن القبائل العربية الضاربة في شمالي الشام وظلت على مسيحيتها خشيت خطر المسلمين، فراسلت هرقل تطلب عونه في مهاجمة المسلمين، ورأى هرقل في ذلك فرصته فراسل هذه القبائل لتستعد، بينما أبحرت جيوشه من الإسكندرية بقيادة ابنه قسطنطين. وألقت الحملة مرساها على شاطئ أنطاكية واستولت عليها. وهناك انضم إليها قبائل العرب المتمردة، ولم يلبث شمالي الشام أن ثار. فألفى أبو عبيدة نفسه محصورًا في حمص، بينما أعداؤه يسيرون إليه برًّا وبحرًا، فراسل عمر فأمده بالقعقاع ونصحه بالتريث[2].
وكانت الخطة أن تحصر القبائل المتمردة عن دائرة جيش الروم فطوقها عبد الله بن عتبان وسرعان ما رجعت إلى مضاربها وآثرت السلامة[3].
واستطاع المسلمون -بعد انفرادهم بالروم- أن يحطموا مقاومتهم، وأن يهزموهم برغم استماتتهم في القتال، وأخيرًا ألجأهم المسلمون إلى انسحاب، ومنذ هذا اليوم عرف [1] الطبري 1/ 5/ 2405. [2] الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص52. [3] ابن الأثير ج2 ص224.