وعلى الرغم من أن أبا عبيدة أجابهم إلى الأمان من بعد، فعادوا بعد أن فروا إلى أنطاكية، إلا أنهم غدروا بالعرب عندما ساروا إلى حلب، فوجه إليهم أبو عبيدة قوة حصرتهم وغنمت منهم مئونة للجيش، وتركت فيهم حامية تكفل إذعانهم وتحمي المؤخَّرة[1]. وسار أبو عبيدة إلى حلب فحاصرها، ولم يلبث أهلها أن خارت عزيمتهم برغم مناعة حصونهم فطلبوا الصلح[2].
وكان هرقل قد اعتصم بأنطاكية قبل ارتحاله إلى الرها، وهي عاصمة الإمبراطورية الرومانية في الشرق، وكان فتحها لدى عمر يعادل فتح المدائن، ويتلهف على أخبارها تلهفه على أخبار القادسية، ولم يكن أبو عبيدة يجعل منعتها وقوة حصونها، كما لم يغب عنها أنها مقر الذين نجوا بعد هزائمهم في مواقع الشام كلها، فاجتمعوا بها وعزموا على الدفاع عنها، ولكن دفاعهم انهار أمام المسلمين، فخرج أهلها وتركوا حصونهم حيث تلقاهم أبو عبيدة في معركة حامية، وحاصر المدينة فسلمت ونزلت على حكمه فرحل عنها. ولكن أهلها عادوا فنقضوا عهدهم، فبعث إليهم بعياض بن غنم فقضى على انتقاضهم، وأقام فيها حامية ثابتة كأمر الخليفة[3]. ولم يبقَ لكي يتصل الفتح في الشام بالفرات إلا تطهير شمال الشام؛ لذلك سار أبو عبيدة إلى حلب حيث بدد جيش الروم، ثم فتح قورس ومنبج، وبعث بخالد ففتح مرعش. وسار يزيد بن أبي سفيان من دمشق ففتح بيروت والثغور المجاورة[4]، ويئس هرقل فارتحل من الرها إلى القسطنطينية. ورأى جبلة بن الأيهم ما حل به فكتب إلى أبي عبيدة بإسلامه وإسلام بني غسان، حتى حدث أن وطئ إزاره رجل من بني فزارة فتنصر والتحق بهرقل[5].
وبينما كان أبو عبيدة يسير مظفرًا في شمال الشام كان عمرو بن العاص وشرحبيل يواجهان قوات الروم، التي اجتمعت بفلسطين لأرطبون أكبر قواد الروم وأكثرهم دهاء، وكان قد وضع بالرملة جندًا عظيمًا وبإيلياء جندًا مثله، وترك بغزة وسبسطية ونابلس واللد ويافا حاميات. وأقام ينتظر مقدم العرب واثقًا من النصر. [1] الطبري 1/ 5/ 2507. [2] الطبري 1/ 5/ 2508. [3] الطبري 1/ 5/ 2508. [4] هيكل، الفاروق ص2366. [5] الأغاني، الساسي ج14 ص4.