وصادف قدوم خالد قدوم باهان، الذي رأى هرقل أن يعزز به جنده. وكان الموقف بالغًا غاية الدقة، فعدد المسلمين قليل جدًّا، بالقياس إلى عدد الروم. وظل الموقف جامدًا ثلاثة أسابيع يتدبر المسلمون أمرهم، وترامى إلى المسلمين أن الروم سينازلونهم في غدهم، وتحدث الأمراء في شأنهم، ولما آن لخالد أن يتحدث قال: "إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر والبغي. أخلصوا لله جهادكم، وأريدوا الله بعملكم، فهذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبئة وأنتم على انتشار"[1] فلما سألوه الرأي، أشار بتعاورهم الإمارة، وطلب أن يتأمر في اليوم الأول، ولم يترددوا.
عبأ خالد الجيش كراديس كل منها ألف رجل، وجعل على القلب أبا عبيدة، وعلى الميمنة عمرو بن العاص وشرحبيل، وعلى الميسرة يزيد، وجعل على كردوس فارسًا من شجعان المسلمين كالقعقاع وعكرمة ومن إليهما. وعهد إلى أبي سفيان بتحريض المسلمين وتذكيرهم، فسرت إلى قلوب المسلمين قوة لم يكن لهم بمثلها عهد مذ نزلوا الشام. وتقدم القادة صفوفهم يرتجزون ويخطبون ويتمثلون، وكلهم ينتظر الأمر بالهجوم بصبر نافذ، وعزم ثابت على النصر أو الموت.
فلما صدرت الأوامر من باهان بالزحف كان جرجه بجيشه في الطليعة، وكان قد تعلم العربية وسمع عن خالد ومال قلبه إليه، فتلقاه خالد وأفسح له ولعسكره طريقًا، وظن الروم أن جرجه في حاجة إلى المدد، فانقضوا على المسلمين فأزاحوهم. وكان عكرمة على كردوسه أمام فسطاط خالد، ورأى تسليم جرجه وارتاح له، فلما رأى صفوف المسلمين تنزاح أمام الروم نادى: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعمائة من وجوه المسلمين، واندفع بهم يلقون فيلق الروم في هجمة رجل واحد، فزلزلوهم كما زلزلهم انضمام جرجه إلى المسلمين، وأيقن المسلمون بالنصر أو الفناء عندما رد الروم هجومهم بأعنف منه. واندفع خالد والمسلمون وراءه يهوون على عدوهم بسيوفهم فيخطفون أرواحهم خطفًا، وازداد حماس المسلمين حتى شارك النساء الرجال، واستمات الروم في دفع المسلمين، وتأرجحت المعركة حامية الوطيس، فلما كانت الشمس في المغيب بدأت قوات الروم تهن، وكان نهر اليرموك يدور في الشمال على شكل نصف دائرة، بحيث [1] ياقوت ج4 ص1015.