كانت تقف عند تأمين التخوم العربية، حتى لا يحدث الروم أنفسهم بغزو العرب انتقامًا لليهود الذين كانوا يأتمرون بالمسلمين، فكان طبيعيًّا إذن أن يكر أسامة راجعًا إلى المدينة، دون أن يدور غزو الروم بخاطره. ولكن الانتصار الذي حققه أسامة كان له أثر بعيد في اعتزاز المسلمين بأنفسهم، وإكبارهم للذين حققوه. حتى ليصبح لانتصار أسامة هذا من الخطر ما لا يتفق مع قيمته الحقة، بل عد فيما بعد فاتحة للحملة التي وجهت لغزو الشام[1].
أما فيما قبل فتح الشام فلم يكن له هذا الخطر ذاته؛ إذ اتبع أبو بكر سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متبع لا يدع أمرًا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعه؛ ولذا كانت وصيته لأسامة أن يصنع ما أمره به نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقصرن في شيء بما أمره.
وقد مر بنا أن أبا بكر كان يرى التفكير في حرب الشام بعد انتهاء فتنة الردة أهون من حرب الفرس، فمنذ بدأت طلائع النصر تساير أعلام المسلمين في حرب الردة كان التفكير في حرب الروم يتردد على خاطر أبي بكر؛ لكنه كان يخشى إبرام هذا الأمر قبل الفراغ من المرتدين، خشية انتقاض العرب عليه. فلما هون المثنى أمر العراق، وانطلق خالد بن الوليد يكتسح أمامه الفرس وأهل البادية، ويضع يده على الحيرة ويتخذها عاصمة للمسلمين، ازداد تفكير أبي بكر في أمر الشام، وبخاصة بعد أن سلمت دومة الجندل وفتحت أبوابها للمسلمين. وكما كان بدء فتح العراق نتيجة للجهود التي بذلها بعض قادة المسلمين في حروب الردة كالمثنى كان نفس الأمر في فتح الشام، فإن خالد بن سعيد بن العاص -الذي كان ردءًا بتيماء على تخوم الشام- دعا إليه القبائل بأمر أبي بكر، فاجتمعت إليه جموع كثيرة جعلت عسكره عظيمًا[2]، وترامت إلى هرقل أنباء هذه الجموع، فاتخذ للأمر عدته. وترامت إلى خالد بن سعيد أنباء استعدادات هرقل، فبعث بها إلى الخليفة مشفوعة برأيه أن يأذن له في منازلة الروم ومن انضم إليهم من قبائل العرب؛ مخافة أن يأخذوه ومن معه على غرة.
وعقد أبو بكر مؤتمرًا دعا إليه جلة أصحابه وأهل الرأي للتداول في هذا الأمر، وطال النظر في الأمر والتشاور، حتى استقر الرأي على الغزو والتجهز له، وأن يستعين الخليفة بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعًا. وكتب الخليفة إلى أهل اليمن وإلى عماله في [1] فكا، دائرة المعارف الإسلامية، فصل أسامة. [2] الطبري 1/ 4/ 2081.