ابن زيد بن حارثة، وأن يكون تجهيز هذا الجيش بعض سياسته في تأمين تخوم شبه الجزيرة من الروم، وكان أسامة حدثًا لما يبلغ العشرين, وإنما ولاه رسول الله ليجعل له من فخار النصر ما يجزي به استشهاد أبيه بمؤتة. ولقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلًا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم ذلك دراكًا، حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه، فإذا تم له النصر فليسرع بالعودة غانمًا مظفرًا. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم يلحق بربه قبل أن يجاوز جيش أسامة الخندق[1].
وهكذا يمضي النبي صلى الله عليه وسلم مخلفًا للمسلمين خطة واضحة المعالم. ورغم ظروف ارتداد المسلمين، وحديث الناس إلى أبي بكر بألا يفرق عنه جماعة المسلمين، الذين يشملهم الجيش في مثل هذه الظروف فإنه يعتزم إنفاذ جيش أسامة ولو تخطفته السباع، ولو لم يبقَ في القرى غيره[2]. ويمضي أسامة فيغزو قبائل قضاعة، ويغير على آبل، ويعود غانمًا في أربعين يومًا، سوى مقامه ومنقلبه[3].
وهكذا يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي رسم بنفسه خطة التمهيد للدعوة في بلاد الشام، وأنه قد أدرك بثاقب نظره أن أشد الخطر يكمن في الشام ويتهدد الدعوة؛ حيث الروم وعمالهم، فكان إدراكه عين الحقيقة، فلم يكن إرسال مولى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ليدلهم، وما كان سيره إليهم بنفسه وإرساله أسامة إلا لفتا إلى هذا الخطر، وإظهارًا لقوة المسلمين في هذه الأنحاء؛ ليقضيَ على هيبة الروم في نفوس صنائعهم، وليكسر خطوط المقاومة الأولى في طريق الدعوة، وليثير في نفوس المسلمين نوازع القوة الكامنة. وبرغم أن أسامة لم يلقَ جيش الروم، إذ اكتفى بأن دهم القبائل وغنم منها، فإن هذه الغزوة كانت بعيدة الأثر في حياة المسلمين، وفي حياة العرب الذين فكروا في الثورة بهم، وفي حياة الروم الذين تمتد بلادهم على حدودهم، حتى ليبعث هرقل بجيش قوي يعسكر بالبلقاء، وبرغم هذا كله لم يدر بخاطر أحد من أمراء الجيش الظافر أن يدفع أسامة لاقتفاء أثر عدوه، ذلك أن السياسة التي جرى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت ماثلة في نفوس المسلمين جميعًا [1] ابن هشام ج2، ص452، 453. [2] الطبري 1/ 4/ 1848. [3] الطبري 1/ 4/ 1851.