حقًّا إن الجيوش والإمدادات لم تكن تصنف حين انتدابها على أي أساس قبلي كما رأينا، وإن كان من الممكن تجمع أعداد هائلة من قبيلة واحدة في جند واحد. والذي يلفت النظر أن إحساسًا وجدانيًّا شاملًا قد استحوذ على جميع المنازع القبلية وصهرها في بوتقة الجهاد في سبيل الله، وإن لم يستطع القضاء على هذه المنازع، وإنما حجبها لبعض الوقت فترات تقصر أو تطول، حتى كان تخطيط هذين المصرين على أساس القبائل، فإذا بأحاسيس جديدة تنشأ بحكم طبيعة الحياة في المدينة، وبحكم علاقات الجوار والعطاء والخضوع لعوامل واحدة.
فكانت الكوفة والبصرة القاعدتين اللتين صدرت عنهما كل العمليات الحربية بعد استقرار المسلمين بهما. وكان أن استشعر المسلمون فيها شعورًا مزدوجًا بأنهم أفراد من قبائل، وأفراد في مدينة معًا. وأخذ الإحساس بالمدينة يلف المسلمين بهذا الرباط المدني، ويطبع أهل كل مصر بطوابع خاصة، فهناك مغازي الكوفة، ومغازي البصرة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، وهناك خلافات على تعديل الفتوح فيما بينهم، وخصومات على الانصياع لقائد من مصر آخر. ويكفي لاستجلاء هذه الأحاسيس ما يُرْوَى عن أهل الكوفة من أنهم إذا قاتلوا أهل البصرة انحازت كل قبيلة ناحية، وقاتلت مثيلتها في الجانب الآخر، فَيَمَنُ الكوفة يقاتلون يَمَنَ البصرة، وربيعة الكوفة تقاتل ربيعة البصرة، وهكذا[1].
وقد تسنى للكوفة والبصرة أن يحققا انتصارات كبيرة في فتوح الجناح الشرقي للعراق وفارس، وتحديد حدود الإمبراطورية الإسلامية في هذا الميدان.
وجلي أن الفاتحين الذين حققوا هذا العمل الكبير كانت كثرتهم من عرب الشمال، الذين نعرف لهم شهرة عامة بالشعر، الشعر الثري الذي لا يتيسر لأقرانهم الفاتحين من أبناء الجنوب، وقد أدى هذا إلى أن تنصرف كثرة شعر الفتح إلى تصوير أحداث الفتوح الشرقية، حتى لا يغادر منها شيئًا، وحتى يكاد يكون سجلًّا تاريخيًّا لها، ووثيقة وجدانية لمشاعر الفاتحين.
ونحن حينما نستعرض تصوير شعر الفتح لأحداث الفتوح الشرقية، سيخيل إلينا أن كل الفاتحين كانوا شعراء دون استثناء؛ إذ أصبح الشعر حظًّا شائعًا بينهم جميعًا على تفاوت في هذا الحظ. [1] الطبري 1/ 5/ 2536.