أمكن أن يحصى منها كل كلمة جاءت شاذة في بابها[1]، نامية في مجموعها بما فيها من ثروة الأوضاع التي تكافئ معاني الاقتصاد السياسي على أتم وجوهها.
فالعرب إذن قوم معنويون كان تمدنهم معنويا، ولو جردتهم من مزايا لغتهم وألقيت في أفواههم أصول أي لغة من لغات العالم، لخرجوا بها جنسًا مغمورًا في الأجناس، ولكانت حريتهم عبثًا ونظام قبائلهم فسادًا، ولصاروا في الجملة إلى حال الشعوب التي لا يدور بها الزمان ولكنه يلقي عليهم الأمم كلما دار ويقابلهم بالمكتشفين والفاتحين والمتحفظين وغيرهم من أجناس المجتمعات المتمدنة. بيد أن الحكمة ألقيت في طباعهم هذا النظام اللغوي، وجعلتهم بحيث ينساقون في سبيله إلى الكمال، لا تعترضهم عقبة ولا يصرف وجوههم عنه صارف من نظام المدنية، فمضوا عن ذلك واللغة تتخطى بهم درجات الاجتماع واحدة فواحدة، حتى انتهت إلى الوحدة الجنسية، فتغير مجموعهم وانصب على العالم بقوة جديدة فنية صادفت دولًا قديمة بالية فصدمتها تلك الصدمة التي هدمت التاريخ وبُني بعدها بناء جديدًا. ولولا اللغة ما انتظم أمر العرب؛ لأنهم قضوا أجيالا قبل تمدنهم اللغوي لم ينبه لهم شأن في أنفسهم، ولا عدوا في اجتماعهم أمر النظام الطبيعي الذي هو وسيلة حفظ الحياة لنظام الحي، لإتمام نظام الحياة، كما هو شأن التمدن الاجتماعي، واللغة هي التي جذبتهم إلى هدي الأخلاق بالشعر، وإلى هدي السياسة بالخطابة، وإلى هدي الدين بالقرآن.
بعض وجوه التمدن:
تقدم لنا في غير هذا الموضع ما يثبت أن تأليف الكلام في هذه اللغة مبني على أسباب لسانية, من عذوبة المنطق ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف، بحيث لا يلاق فيه بين حرفين لا يأتلفان ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحسن السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المطبق في غير المطبق، كتاء الافتعال مع الصاد والضاد، في خلال كثيرة من هذا الشكل ترجع بجملتها إلى ميل العرب فطرة عما يلزم كلامها الجفاء إلى ما يلين حواشيه ويرقها؛ وهذه العناية منهم بتأليف الحروف كانت السبب الطبيعي لعنايتهم بتأليف الألفاظ وإحكام الكلام وتوخيهم روعة الإسلوب وفخامة التركيب، وهو ما خص به العرب دون سائر الأمم.
وقد غفل بعض العلماء عن هذا السبب الطبيعي، فذهب إلى أن العرب إنما تعنى بالألفاظ؛ لأنها تغفل المعاني، فتجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشّوه ودبجوه، ولست تجد مع ذلك تحته معنى شريفًا، بل لا تجده قصدًا ولا مقاربًا، وعلى هذا النمط أكثر أشعارهم. وقد رد على هؤلاء ابن جني في كتاب "الخصائص"، وتمحل في النضج عن العرب؛ لأنه كذلك لم ينظر إلى السبب الطبيعي الذي أومأنا إليه. قال: "فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا عذوبها "أطرافها" وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ؛ بل هي عندنا خدمة [1] من ذلك كتاب "الشذوذ" لابن رشيد صاحب كتاب "العمدة" المتوفى سنة 463هـ يذكر فيه كل كلمة من اللغة جاءت شاذة في بابها. وما تجد من قاعدة في كتب العلماء إلا ولها شواذ محصورة إن كانت مما يدخله الشذوذ.