ونحن إذا اعتبرنا ذلك في العرب لم نر لهم حقيقة ولا مظهرًا إلا في اللغة؛ لأنه لا يكفي أن يكون العربي على أخلاق فطرية تحميها حدود البادية، وتصونها أسوار الحرية الطبيعية، حتى يقال إن فيها ذاتًا نامية بآدابها؛ لأن هذه الآداب لم تحدث فيهم التغيرات العقلية التي تراءى بها صورة المجموع, إلا في آخر عهدهم الجاهلي حين ضمهم الإسلام، ولكنا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة؛ فهي منهم بحر الحياة الذي انصبت فيه جميع العناصر، وانبعث بها هذا التيار العقلي الذي يدفع بعضه بعضًا، وكأنها هي التي كانت تهذب من نفوسهم وتزنها وتعدلها وتخلصها برقة أوضاعها وسمو تراكيبها، حتى ينشأ ناشئهم في نفسه على ما يرى من أوضاع الكمال من لغته؛ لأنه يتلقنها اعتياديا من أبويه وقومه؛ ولهي أقوم على تثقيفهم من المؤدب بأدبه والمعلم بعلمه وكتبه؛ لأنها حركات نفسية مدارها على انجذاب الطبع فيهم، حتى كان العربي القح ربما أخطأ في الكلمة إذا جذبه طبعه إليها، فيعدل بها عن سنن الفصيح -كما سيأتي في باب اللحن[1]- والكمال متى كان مأتاه من الطبع. وكانت قوته في الغريزة، فأحر به أن يصنع النفس صنعة غير طبيعية في العادة؛ ونحن نرى العرب لعهدنا لا يزالون في مواطن أسلافهم ولم تتنكر لهم الطبيعة، ولكنهم حين فقدوا خصيصة اللغة فقدوا معها خصائص كثيرة من النظام النفسي، حتى إنهم لا يصلحون في حالتهم الراهنة أن يكونوا مادة نظام سياسي في جزيرتهم، فضلًا عن أن يكونوا مادة حادث اجتماعي عظيم كالإسلام الذي جعله أسلافهم نظام العالم، فكأن بينهم وبين أسلافهم من الفرق ما يستغرق تاريخ العالم كله من عهد الإسلام.
وأخص شروط التمدن الاجتماعي فيما نرى ثلاثة: هي الحرية، والنظام، والنمو. وهي التي تتخلف عن معانيها الاجتماعية آثار المدينة التي تدل على حضارة الأمم الخالية، كالأبنية والمخلفات الأدبية، والعلمية والفلسفية، ثم الثروة الاعتبارية التي تدير حركة العمران، من التجارة والصناعة والزراعة، ثم الشرائع. وهذه الشروط هي كذلك أخص مميزات اللغة العربية, فهي حرة في أوضاعها بها يطابق الحرية الشخصية والسياسية، منتظمة في أجزائها بما يماثل نظام القوانين والشرائع، حتى [1] وكان منهم من يتوهم موضوعًا فيضع عليه ويجذبه إليه طبعه، كقول بعضهم: سؤق، في سوق جمع ساق، ومؤق، في مؤق العين؛ وتعليله عند النحاة أن يتوهم أن الضمة التي قبل الواو واقعة على الواو نفسها، ولذلك يهمزها تخلصًا من ثقل الضم ولا أصل لها في الغمز. وزعم الفارسي أن أبا حية النميري الشاعر كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وإن لم يكن لها أصل في الهمزة؛ فيقول: المؤقدان، أي: الموقدان، ومؤسى، أي: موسى، وهكذا.
وعكس ذلك قولهم أيضًا: الكماة والمراة، في الكمأة والمرأة: كأنهم توهموا فتحة الهمزة واقعة على ما قبلها, فكأنها كمأة ومرأة "بسكون الهمزة" وإذا كانت الهمزة ساكنة وما قبلها مفتوح وأريد تخفيفها قلبت ألفًا فتصير كماة ومراة كما ينطقون. وهذا التعليل -كما قال ابن سيده- من أدق النحو وأظرف اللغة.
ورأينا ابن جني يعلل ذلك في "سر الصناعة" بأن الساكن إذا جاور المتحرك صارت حركته كأنها فيه. قال: ويزيد ذلك عندك وضوحًا أن من العرب من يقول في الوقف: هذا عمر وبكر "بضم الميم والكاف" ومررت بعمر وبكر "بكسر الميم والكاف" فينقل حركة الرا إلى ما قبلها؛ وهذه من اللغات التي لم نذكرها فيما تقدم؛ لأن لها في هذا الفصل مكانًا.