منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها".
والحق أن ذلك في العربية وجه من وجوه تمدنها، وقد جروا فيه على سنن طبيعية ثابتة؛ لأنهم يفرعون من المعاني فروعًا كثيرة بالمجاز والاستعارة، ثم يجرون عليها الألفاظ التي تناسبها، فكأنهم يستغلونها استغلالًا معنويا. وذلك من أمرهم أيضًا في الألفاظ؛ فإنهم لا يفرطون في مادة تتقلب عليها حروف المنطق بما ينزل على حكمهم في التأليف من العذوبة والمناسبة، فيفرعون الألفاظ المتقاربة فروعًا كثيرة يجرونها على المعاني المتباينة، كقولهم: روأت في الأمر، "فكرت"، ورويت رأسي من الدهن، وأمثال لذلك كثيرة؛ فكأنهم بهذا الضرب يستغلون المعاني استغلالًا لفظيا.
ومن وجوه التمدن التي تناسب طبائع الاقتصاد المدني، هذه الحركات التي تخصص المعاني وتعين الأغراض بأيسر إشارة؛ وهي أخص مميزات السمو العقلي، ومنها حركات الإعراب، كقولهم: ما أحسن زيدًا! إذا أرادوا التعجب من حسنه, وما أحسن زيد؟ إذا أرادوا الاستفهام عن أحسن ما فيه، وما أحسن زيد، إذا أرادوا نفي الإحسان عنه، ولا يوجد ذلك في غير لغة العرب.
ومنها حركات التصريف كقولهم: مِفْتَح، لآلة الفتح، ومَفْتَح، لموضع الفتح، وهكذا.
ومنها حركات الفروق التي تنوع المعاني، كقولهم: الإذلاج، لسير أول الليل، والادّلاج، لسير آخر الليل؛ وأمثلة ذلك فاشية في اللغة.
ومن هذا الباب قولهم: رجل لُعنة وضُحكة، إذا كان يُلعن كثيرًا ويُضحك منه؛ ورجل لَعنة وضُحكة، إذا كان هو كثير اللعن والضحك.
ولعلهم لم ينتبهوا لهذه الفروق بالحركات إلا بعد أن أحدثوا مثلها في لغتهم بالحروف، كقولهم: أخفر، إذا أجار؛ وخَفَر! إذا نقض العهد؛ وأقذى عينه، إذا ألقى فيها القذى؛ وقذاها، إذا نزع عنها القذى؛ وأبعت الفرس، عرضته للبيع؛ وبعته، إذا انتهى البيع؛ وهكذا، فكأن الاختصار دائمًا تمثيل للانتهاء.
ومما يستنفد عجب المفكر من أمر هذا الباب الاقتصادي، تصرفهم في حروف المعاني المفضلة معانيها في كتب النحو، ودلالتهم بالحرف الواحد في الكلمة على المعاني المختلفة، كمعاني الهمزة والباء وغيرهما مما يتصرف به في مناحي الكلام. ويزيد هذا العجب أن لا يكون بين المعنيين أو المعاني الكثيرة وجوه من الشبه بحيث يتأول في رد معانيها الأصول بعضها إلى بعض، وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما رآه بعض علماء اللغات من أن هذه الحروف بقايا ألفاظ مستقلة بمعانيها، فإن صح ذلك كان "عجبًا من العجب".
وهذا وأمثاله، مما يكشف من اللغة عن سر النمو الذي هو أصل من أصول التمدن بالإطلاق، وأن للعرب تصرفًا ليس في لغة من اللغات، وخاصة أختي العربية، فإن الزمن وقف بهما عند منقطع لم يتعده، وكأن العربية منهما قرآن لغوي ومفتتح بهذه القاعدة التي يبنى عليها نظام الارتقاء: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فإن لغة السريان مثلًا لا تجد فيها أثرًا للفعل المبني للمجهول، كضرب زيد أي: ضربه شخص -وذلك من أنواع الاقتصاد اللغوي- وفي العبرانية