بينهما، فإن كان قد بقي أثر من آثار المسيحية اليوم في أكواخ بعض العامة في أوروبا فما بقي إلا بعد أن عفت عنه المدنية ورضيت بالإبقاء عليه، لا باعتبار أنه دين مقدس يجب إجلاله وإعظامه، بل باعتبار أنه زاجر من الزواجر النفسية التي تستعين الحكومات بها وبقوتها على كسر شرة النفوس الجاهلة، فلا علاقة بين المسيحية والتمدين الغربي من حيث يستدل به عليها أو باعتبار أنه أثر من آثارها، ونتيجة من نتائجها، ولو كان بينه وبينها علاقة ما افترقت عنه نحو تسعة عشر قرنا كانت فيها أوربا وراء ما يتصوره العقل من الهمجية والوحشية والجهل، فما نفعتها مسيحيتها، ولا أغنى عنه "كهنوتها" ولا "إكليروسها".
أما المدنية الإسلامية فإنها طلعت مع الإسلام في سماء واحدة من مطلع واحد في وقت واحد، ثم سارت إلى جانبه كتفا لكتف ما ينكر من أمرها ولا تنكر من أمره شيئا، فالمتعبد في مسجده، والفقيه في درسه، والمعرب في مكتبته، والرياضي في مدرسته، والكيمائي في معمله، والقاضي في محكمته، والخطيب في محفله، والفلكي أمام إسطرلابه، والكاتب بين محابره وأوراقه، إخوة متصافون؛ وأصدقاء متحابون، لا يختصمون