الذنب فذغر لرؤيتها المسيحيون ورفعوا إلى البابا عرائض الشكوى فطردها من الجو فولت الأدبار، أم في العصر الذي أهدى فيه الرشيد العباسي الساعة الدقاقة إلى الملك شارلمان فلما رآها الشعب المسيحي وسمع صوتها فر من وجهها ظنا منه أنها تشتمل على الجن والشياطين، أم في العصر الذي ألفت فيه محكمة التفتيش لمحاكمة المتهمين بمزاولة العلوم فحكمت في وقت قصير على ثلاثمائة وأربعين ألفا بالقتل حرقا أو صلبا، أم في العصر الذي أحرق فيه الشعب المسيحي فتاة حسناء بعد ما جرد لحمها عن عظمها؛ لأنها كانت تشتغل بعلوم الرياضة والحكمة.
هذا الذي نعلمه أيها الفيلسوف التاريخي من تاريخ العلم والعرفان والمدنية والعمران في العصور المسيحية، ولا نعلم أكانت تلك المسيحية التي كان هذا شأنها وهذا مبلغ سعة صدرها صحيحة في نظرك أم باطلة، وإنما نريد أن نستدل بالمسيحيين على المسيحية وإن لم نقف على حقيقتها، كما فعلت أنت في استدلالك بالمسلمين على الإسلام وإن لم تعرف حقيقته وجوهره، على أن استدلالنا صحيح واستدلالك باطل، فإن المدنية الحديثة ما دخلت أوربا إلا بعد أن زحزحت المسيحية منها لتحل محلها كالماء الذي لا يدخل الكأس إلا بعد أن يطرد منه الهواء؛ لأنه لا يتسع لهما، ولا يجمع