إذا الجبلُ النَّائي حواكِ مقيلهُ ... جعلنا علينا أنْ نُجاورَهُ نحبا
فما ذكرَتْ عندي لها من سميَّةٍ ... فتملكَ عيني من مدامعها غربا
من شأن من قصد لقاء أحبابه أن تتطاول عليه الطَّريق عند اقترابه ويلحقه حينئذٍ من الضَّجر مع قربه منه أضعاف ما ناله إذْ كان متباعداً عنه.
وفي ذلك يقول الموصلي:
طربْتَ إلى الأُصَيْبِيةِ الصِّغارِ ... وهاجكَ منهمُ قربُ المزارِ
وأبرحُ ما يكونُ الشَّوقُ يوماً ... إذا دنتِ الدِّيارُ من الدِّيارِ
فهذا لعمري قولٌ حقٌّ غير أنَّه لم يُخبر بعلَّته.
ولقد أحسن الَّذي يقول في نحوه:
هلِ الحبُّ إلاَّ زفرةٌ بعدَ عبرةٍ ... وحرٌّ علَى الأحشاءِ ليسَ لهُ برْدُ
وفيضُ دموعِ العينِ يا ميُّ كلَّما ... بدا علمٌ منْ أرضكُمْ لم يكنْ يبدو
وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة هذا المعنى فجوّده أنشدني له أبو العباس أحمد بن يحيى:
خليليَّ ما بالُ المطايا كأنَّما ... نراها علَى الأدبارِ بالقومِ تنكِصُ
وقدْ أتعبَ الحادي سُراهنَّ وانثنى ... بهنَّ فما بالرَّاجعاتِ مُقلِّصُ
وقدْ قُطعتْ أعناقهُنَّ صبابةً ... فأنفسُها ممَّا يُلاقينَ شُخَّصُ
يزدْنَ بنا قُرباً فيزدادُ شوقُنا ... إذا ازدادَ طولُ العهدِ والبعدُ ينقصُ
أفلا ترى إلى إيضاحه أنَّ العلّة في تزايد شوقه إنَّما هي تطاول مدَّةٍ وأنَّه كلَّما قطع جزءٌ من الطريق فقرب المقصود زاد في مدَّة المفارقة وقتٌ فزاد الاشتياق على حسب تزايد مدَّة الفراق على أنَّ عمر قد أوضح أشياء وأغفل شيئاً من أنَّ تطاول المدَّة يزيد في الشَّوق مع تقارب الشُّقَّة ولم يذكر أنَّ قوَّة الرَّجاء لسرعة اللِّقاء من أقوى الأسباب في تقوية الشَّوق عند الاقتراب.
الباب التاسع والعشرون
من قصَّر عن مصاحبة الجار لم تنفعه مسائلة الدَّار
حدَّثني أبو العبَّاس أحمد بن يحيى النَّحويُّ قال حدَّثنا أبو سعيد قال حدَّثنا الهرويُّ قال حدثنا موسى بن جعفرٍ بن كثيِّرٍ قال كان المجنون لما أصابه ما أصابه يخرج فإذا أتى الشَّام قال لهم أين أرض بني عامر فقالوا له وأين أنت من أرض بني عامرٍ وقف عند جبلٍ يقال له التَّوباد ثمَّ أنشد:
وأجهشْتُ للتَّوبادِ لمَّا رأيتهُ ... وهلَّلَ للرَّحمانِ حينَ رآني
وأذريْتُ دمعَ العينِ لمَّا رأيتهُ ... ونادى بأعلى صوتهِ فدعاني
وقلتُ له أينَ الَّذينَ عهدتهمْ ... حوالَيْكَ في عيشٍ وخير زمانِ
فقالَ مضوْا واستودعوني بلادهُمْ ... ومنْ ذا الَّذي يبقى علَى الحدثانِ
وإنِّي لأبكي اليومَ من حذري غداً ... فراقَكَ والحيَّانِ مُؤْتلفانِ
سجالاً وتهْتاناً ووبْلاً وديمةً ... وسحّاً وتسجاماً وينهملانِ
قال ثمَّ يمضي حتَّى يأتي العراق فيقول مثل ذلك ثمَّ يأتي اليمن فيقول مثل ذلك.
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
ذاكَ وادي الأراكِ فاحبسْ قليلاً ... مُقصراً منْ صبابةٍ أوْ مُطيلا
قِفْ مشوقاً أوْ مُسعداً أوْ حزيناً ... أوْ مُعيناً أوْ عاذراً أوْ عذولا
إنَّ بينَ الكثيبِ فالجزعِ فالآ ... رامِ رَبْعاً لآلِ هندٍ محيلا
أبلَتِ الرِّيحُ والرَّوائحُ والأ ... يَّامُ منهُ معالماً وطُلولا
وخلافُ الجميلِ قولُكَ للذا ... كرِ عهدَ الأحبابِ صبراً جميلا
لا تلُمْهُ علَى مواصلةِ الدَّمْ ... عِ ولؤمٌ لومُ الخليلِ الخليلا
لم يكنْ يومُنا طويلاً بنعما ... نٍ ولكن كانَ البُكاءُ طويلا
وقال يحيى بن منصور:
أما يستفيقُ القلبُ إلاَّ انبرى لهُ ... توهُّمُ دارٍ من سعادٍ ومربَعِ
أُخادعُ عنْ عِرفانها العينَ إنَّها ... متى تُثبتِ الأطلالَ عينيَ تدمعِ
عهدْنا بها وحشاً عليها براقعٌ ... وهذي وحوشٌ حُسَّرٌ لم تُبرقعِ
وقال ذو الرمة:
أإنْ ترسَّمتَ من خرقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عينيكَ مسجومُ
منازلُ الحيِّ إذْ لا الدَّارُ نازحةٌ ... بالأصفياءِ وإذْ لا العيشُ مذمومُ
تعتادني زفراتٌ حينَ أذكرُها ... تكادُ تنقدُّ منهُنَّ الحيازيمُ
وقال أيضاً: