كأنَّ ديارَ الحيِّ بالزُّرقِ حلقةٌ ... منَ الأرضِ أوْ مكتوبةٌ بمِدادِ
إذا قلتُ تعفو لاحَ منها مُهيِّجٌ ... عليَّ الهوَى من طارفٍ وتِلادِ
وما أنا في دارٍ لميٍّ عرفتُها ... بجلدٍ ولا عيني بها بجمادِ
إذا قلتُ بعدَ الجهدِ يا ميُّ نلتقي ... عدتْني بكرْهٍ أن أراكِ عوادي
ودويَّةٍ مثلُ السَّماءِ اعتسفتُها ... وقد صبغَ اللَّيلُ الحصى بسوادِ
أمَّا تشبيهه رسوم الدَّار بالحلقة من الأرض فهذا إحسانٌ في معناه وإعرابٌ في لفظه وما أساء في تشبيهها بالكتابة بالمداد غير أنَّ هذا مسبوقٌ إليه فالمعيد لذكره غير ملومٍ فيه ولا محمودٍ عليه وأما إخباره بأنَّها تهيج هواه وادكاره فهو أيضاً معنًى غير مبتدعٍ إلاَّ أنَّه يدلُّ على ضعفٍ في الحال ونقصٍ في الجزع ويشهد بما قلناه اعتذاره إلى من يهواه ومن تركه القصد إلى لقائه بأنه إذا عزم على ذلك عداه عنه مكروهٌ من أشغاله وكلُّ هذه الأوصاف تدلُّ على قصور حاله.
ولقد قال البحتري في أكثر هذه الأحوال فأحسن فيما قال فمن ذلك قوله:
دَمنٌ كمثلِ طرائقِ الوشْيِ انجلَتْ ... لمَعاتهُنَّ منَ الرِّداءِ المُنهَجِ
يضْعُفنَ عنْ إذكارنا عهدَ الصِّبى ... أوْ أنْ يهجْنَ صبابةً لم تهتجِ
ولرُبَّ دهرٍ قد تبسَّمَ ضاحكاً ... عن طرَّتَيْ زمنٍ بهنَّ مُدبَّجِ
منْ قبلِ داعيةُ الفراقِ ورحلةٌ ... منعَتْ مُغازلةَ الغزالِ الأدْعجِ
لأُكلِّفنَّ العيسَ أبعدَ غايةٍ ... يجري إليها خائفٌ أوْ مُرتجِ
وله أيضاً:
لا تقفْ بي علَى الدِّيارِ فإنِّي ... لستُ من أربُعٍ ورسمٍ مُحيلِ
في بكاءٍ علَى الأحبَّةِ شغلٌ ... لأخي الحبِّ عنْ بُكاءِ الطُّلولِ
علَى أنَّه قد نقض أيضاً علَى نفسه هذا المعنى الَّذي استحسناه بقوله:
أينَ أهلُ القبابِ بالأجرعِ الفَرْ ... دِ تولُّوا لا أينَ أهلُ القِبابِ
سقمٌ دونَ أعينٍ ذاتِ سُقمٍ ... وعذابٌ دونَ الثَّنايا العِذابِ
وكمثلِ الأحبابِ لو يعلمُ العا ... ذلُ عندي منازلُ الأحبابِ
فهو يوهمُنا في الأبيات الأول أنَّ الصَّبابة قد ملكت هممه وأفكاره وتناولت خواطره وادِّكاره حتَّى لم تدع فيه فضلاً لعارضٍ يهيجه ولا لمنزلٍ يذكّره وأنَّ شغله بالتَّفرُّد بالبكاء على إلفه يمنعه من التَّشاغل بالوقوف على منزله وهو في هذه الأبيات لا يرضى أن يجعل البكاء على الدَّار لضروبٍ من ضروب الادِّكار برغم أنَّ موقعها في فؤاده كموقع من كان فيها من أحبابه وهذا أفرط في التَّفاوت والمناقضات غير أنَّ من تكلَّم على قدر الأوقات وجرى مع أحكام الهوَى على حسب الغايات غدر بل تحيَّل في قوله فضلاً عن أن يخالف مذهباً إلى غيره.
ولقد أنصف الَّذي يقول:
لَعمركَ ما أبكي علَى الدَّارِ إذْ خلتْ ... ولكن لأهلِ الدَّارِ إذْ ودَّعوا الدَّارا
تولُّوا فولَّى العيشُ من بعدِ غبْطةٍ ... وأبقوا بقلبي من تذكُّرهمْ نارا
وقال ذو الرمة:
بجرعائها من ساكنِ الحيِّ ملعبٌ ... وآريُّ أفراسٍ كجُرثومةِ النَّملِ
كأنْ لم يكُنها الحيُّ إذْ أنتَ مرَّةً ... بها ميِّتُ الأهواءِ مجتمعُ الشَّملِ
بكيتُ علَى ميٍّ بها إذْ عرفتُها ... وهجْتُ الهوَى حتَّى بكى القومُ من أجلي
فظلُّوا ومنهمْ دمعهُ غالبٌ لهُ ... وآخَرُ يثني عبرةَ العينِ بالهملِ
وهلْ همَلانُ العينِ راجعُ ما مضى ... من الوجدِ أوْ مُدْنيكِ يا ميُّ من أهلي
ألا لا أُبالي الموتَ إن كانَ قبلهُ ... لقاءٌ لميٍّ وارتجاعٌ من الوصلِ
وقال أيضاً:
قِفِ العيسَ في أطلالِ ميَّةَ فاسألِ ... رُسوماً كأخلاقِ الرِّداءِ المُسلسلِ
أظنُّ الَّذي يُجدي عليكَ سؤالُها ... دموعاً كتبذيرِ الجُمانِ المفصَّلِ
وكائنْ تخطَّتْ ناقتي منْ مفازةٍ ... ومن نائمٍ عن ليلةٍ مُتزمِّلِ
وقال ذو الرمة:
وقفْتُ علَى ربْعٍ لميَّةَ ناقتي ... فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبُهْ
وأُسقيهِ حتَّى كادَ ممَّا أبثُّهُ ... تُكلِّمني أحجارهُ وملاعبُهْ