فليلى الأخيليَّة عفا الله عنا وعنها إن كان ما حكاه لنا توبة عنها في البيت الثاني حقّاً فإنَّها كانت جاهلةً بأحوال العشَّاق غافلةً عمَّا تولده روعات الفراق ولَعمري إن من مراثيها في توبة بعد وفاته لدالَّةً على أنَّها لم تتعلَّق من الهوَى إلاَّ بأطرافه إذْ لو كان الهوَى قد بلغ بها أقصى الحال كانت حياتها بعد وفاة توبة ضرباً من المحال وما أحصي ما اتَّصل بي من أخبار من تخوَّف بمفارقة حبيبه فتلف من ساعته ولقد اتَّصل بي خبر لم أسمع بأعجب منه وإنَّ صاحبته وليلَى الأخيليَّة لفي الطَّرفين هذه عندها أنَّه لا يموت أحد من مخافة فرقةٍ وتلك تلفت من جريان خاطرٍ بالفراق على قلبها من غير أن يؤدي ذلك إليه ناظرها ولا سمعها ذكر أبو مالك الرَّاوية أنَّه سمع الفرزدق يقول أبقَ غلامان لرجل من بني نهشل يقال له الخضر قال فخرجت في طلبهما وأنا على ناقةٍ لي عنساء أريد اليمامة فلما صرت في ماءٍ لبني حنيفة ارتفعت لي سحابةٌ فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألتهم القِرى فأجابوا فدخلت الدَّار وأنخت النَّاقة وجلست تحت ظلالهم من جريد النَّخل وفي الدَّار جويريةٌ سوداء إذْ دخلت الدَّار جاريةٌ كأنَّها فلقة قمر وكأنَّ عينيها كوكبان درِّيَّان فسألت السوداء لمن هذه العنساء فقالت لضيفكم هذا فعدلت إليَّ فقالت السَّلام عليك فقلت وعليكِ السَّلام فقالت لي من الرِّجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيِّ بني حنظلة قلت من بني نهشلٍ قالت فأنت الَّذي يقول فيك الفرزدق:
إنَّ الَّذي سمكَ السَّماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
بيتاً زُرارةُ مُحتبٍ بفنائهِ ... ومُجاشعٌ وأبو الفوارسِ نهشلُ
قال قلت نعم فتبسَّمت وقالت فإنَّ ابن الخطفى جريرٌ هدم عليه بيته هو الَّذي يقول:
أخزى الَّذي رفعَ السَّماءَ مُجاشعاً ... وبنى بناءَكَ بالحضيضِ الأسفلِ
بيتاً يُحمَّمُ قينكُمْ بفنائهِ ... دنِسٌ مقاعدهُ خبيثُ المدخلِ
قال فأعجبتني فلمَّا رأت ذلك في وجهي قالت إلى أين تؤمُّ قلت اليمامة قال فتنفَّست الصُّعداء ثمَّ قالت ها هي تلك أمامك ثمَّ أنشأت تقول:
تُذكِّرني بلاداً خيرُ أهلي ... بها أهلُ المروءةِ والكرامةْ
ألا فسقى المليكُ أجشَّ صوبٍ ... يدرُّ بسحِّهِ تلكَ اليمامةْ
وحيَّى بالسَّلامِ أبا نُجيدٍ ... فأهلٌ للتَّحيَّةِ والسَّلامةْ
قال فأنست بها فقلت أذات خدنٍ أم ذات بعلٍ فأنشأت تقول:
إذا رقدَ الخليُّ فإنَّ عمراً ... تُؤرِّقهُ الهمومُ إلى الصَّباحِ
تُقطِّعُ قلبهُ الذِّكْرى وقلبي ... فلا هو بالخليِّ ولا بصاحِ
سقى اللهُ اليمامةَ دارَ قومٍ ... بها عمرٌو يحنُّ إلى الرَّواحِ
قال فقلت لها من عمرٌو فأنشأت تقول:
فإنْ تكُ ذا قُبولٍ إنَّ عمراً ... هوَ القمرُ المضيءُ لمُستنيرِ
وما لي بالتَّبعُّلِ مُستراحٌ ... ولو ردَّ التَّبعُّلُ لي أسيري
قال ثمَّ سكتت سكتةً كأنَّها تستمع إلى كلامي ثمَّ تهافتت وأنشأت تقول:
يُخيَّلُ لي أبا عمرو بنَ كعبٍ ... كأنَّكَ قد حُملتَ على سريرِ
فإنْ يكُ هكذا يا عمرو إنِّي ... مُبكِّرةٌ عليكَ إلى القبورِ
قال ثمَّ شهقت فماتت فقلت لهم من هذه قالوا هذه عقيلة بنت الضَّحَّاك بن النُّعمان بن المنذر بن ماء السَّماء قلت ومن عمرٍو هذا قالوا ابن عمِّها قال فارتحلت من عندهم فدخلت اليمامة فسألت عن عمرٍو فإذا به قد دفن في ذلك الوقت من ذلك اليوم.
الباب الثاني والعشرون قلَّ من سلا إلاَّ غلبه الهوَى
من كان سلوُّه تابعاً لظفَره بما من أجله كان ابتداء محبَّته فإنَّ الهجر والفراق لا يعيدان له هوًى ولا يتبعان على ضميره أسًى ومن كانت طبيعته بمشاكلة طبيعته فسلا لضجرة لحقته من مخالفة محبوبه أو من تعذُّر بعض مطلوبه أو لتأذٍّ بحاجبٍ أو رقيب أو لملالٍ من سعاية واشٍ أو عذول فإن أدنى عارض يطيف به من فراق أو هجر أو من مخافة خيانة أو غدر يعيد عليه قلق الإشفاق ويردُّه بعد السُّلوِّ إلى مواقف العشاق وربما ألمَّ بمن هذه صفته في المنام طائفٌ من خيال فردَّه إلى أتمِّ ما كان عليه من الحال.
وقال البحتري: