وما غرَضي في أنْ أُثبِّتَ حُجَّةً ... عليكَ وما لي غيرُ عفوكَ مطلبُ
إليكَ مفرِّي منكَ لا عن وسيلةٍ ... إليكَ سوى أنِّي بحُبِّكَ مُتعبُ
فإنْ تأتِ ما أهوى فعبدٌ نعَشْتهُ ... وإنْ تكنِ الأخرى فعبدُكَ مُذنبُ
فرأيكَ فيمنْ أنتَ مالكُ رقِّهِ ... فقدْ حلَّتِ البلوى وطابَ التَّجنُّبُ
وقال المؤمل:
شفَّ المُؤمِّلَ يومَ الحيرةِ النَّظرُ ... ليتَ المؤمِّلَ لم يُخلقْ لهُ بصرُ
حسبُ المُحبِّينَ في الدُّنيا عذابهمُ ... والله لا عذَّبتهُمْ بعدها سقَرُ
صفِ الأحبَّةَ ما لاقيتَ من سهرٍ ... إنَّ الأحبَّةَ لا يدرون ما السَّهرُ
لمَّا رمتْ مقتلي قالتْ لجارتِها ... إنِّي قتلتُ قتيلاً ما لهُ خطرُ
قتلتُ شاعرَ هذا الحيِّ من مُضرٍ ... الله يعلمُ ما ترضى بذا مُضرُ
وإنَّما أقصدَتْ قلبي بمُقلتها ... ما كانَ قوسٌ ولا سهمٌ ولا وترُ
أحببْتُ من حبِّها قوماً ذوي إحَنٍ ... بيني وبينهمُ النِّيرانُ تستعرُ
إنِّي لأصفحُ عنها حينَ تظلِمُني ... وكيفَ من نفسهِ الإنسانُ ينتصرُ
وقال آخر:
مسَّني من صدودِ إلفيَ ضُرُّ ... فبنات الفؤادِ ما تستقرُّ
مسَّني ضرُّهُ فأوجعَ قلبي ... غيرَ أنِّي بذاكَ منهُ أُسرُّ
وقال آخر:
أيا سُلمى دفعْتُ إليكِ نفسي ... برئْتُ إليكِ من نفسي بريتُ
وقالوا عذَّبتْكَ فقلتُ كلاَّ ... رضيتُ بمنْ يعذِّبُني رضيتُ
وقال أبو تمام حبيب:
أسرفْتَ في منعي وعادتُكَ الَّتي ... ملكَتْ عِنانكَ أنْ تجودَ فتُسرفا
لمْ آلُ فيكَ تلطُّفاً وتعسُّفاً ... وتألُّفاً وتحيُّفاً وتعطُّفا
وأراك تدفعُ حُرمتي فأظنُّني ... ثقَّلتُ غيرَ مُؤنِّبٍ فأخفِّقا
وقال أيضاً:
وجدْتُ صريحَ الحزمِ والرَّأيِ لامرئٍ ... إذا ملكتْهُ الشَّمسُ أنْ يتحوَّلا
فثقَّلْتُ بالتَّخفيفِ عنكَ وبعضهُمْ ... يُخفِّفُ في الحاجاتِ حتَّى يُثقِّلا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
بالله قولي لهُ في غيرِ مَعتبةٍ ... ماذا أردتَ بطولِ المكْثِ باليمَنِ
إنْ كنتَ حاولتَ دُنيا أو قنعْتَ بها ... فما أصبْتَ بتركِ الحجِّ من ثمنِ
وقال الراعي:
وكمْ جشمنا إليكمْ سيرَ موديةٍ ... كأنَّ أعلامها في أُفقها القُزَعُ
حمَّاءُ غبراءُ يخشى المدَّلونَ بها ... ريعَ الهداةِ بأرضٍ أهلها شِيَعُ
فإنْ تجودوا فقدْ حاولْتُ جودكُمُ ... وإنْ تضِنُّوا فلا لومٌ ولا فزعُ
وهذه أحوال كلُّها لطيفة ومطالبات جميلة وأشنع منها لفظاً وأنقص من هذا معنًى.
قول البحتري:
لا تهْتَبلْ إغْضاءتي إذْ كنتُ قدْ ... أغضيْتُ مُشتملاً علَى جمرِ الغضا
أغببْتُ سَيْبكَ كيْ يجُمَّ وإنَّما ... غُمدَ الحسامُ المشرفيُّ ليُنتضى
وسكَتُّ إلاَّ أنْ أُعرضَ قائلاً ... قولاً وصرَّحَ جهدهُ من عرَّضا
وفي هذا النحو لبعض أهل هذا الزَّمان:
يا عالماً بالذي ألقى منَ الكُربِ ... إرْفق بعينكَ لا تُعطبْ فِداكَ أبي
لا تغتنمْ صفحَ مطويٍّ علَى كبدٍ ... حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُلتهبِ
لو كنتَ مثليَ لم تصبرْ علَى كمَدي ... أو كنتُ مثلكَ لم أفعلْ كفعلكَ بي
إن كانَ ذا الهجرُ تأديباً فحسبُكَ ما ... قدَّمتَ منهُ فقد بالغتَ في أدبي
وقد قال المتلمِّس ما يخرج قبحاً وجفاء عن هذا الباب ولا يصلح أن يجري في المخاطبة بين الأحباب وذلك قوله:
وما كنتَ إلاَّ مثلَ قاطعِ كفِّهِ ... بكفٍّ لهُ أخرى فأصبحَ أجذَما
يداهُ أصابتْ هذه حتْفَ هذه ... فلمْ تجدِ الأخرى عليها مُقدَّما
فأطرقَ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مساغاً لنابيْهِ الشُّجاعُ لصمَّما
وذلك أنَّه يخبر أنَّ الجناية قد أثَّرت في قلبه وولَّدت حقداً في نفسه وأنَّ الَّذي يمنعه من أن ينتقم خوفه من تزايد الألم وأنَّه على أن يعاقب إذا أمنَ العواقب والمعاتبة بل المعاقبة أحسن من الإغضاء على مثل هذه الحال.
وفي نحو هذا المعنى يقول الوليد بن عبيد الطائي: